في ذكرى رحيل المصطفى ولد محمد السالك
أشير في مستهل هذه المقالة إلى أننا قوم أهل بداوة، ولا نهتم بإبراز تاريخ دولتنا الحديث، ولا الترجمة لأعلام حركتنا الوطنية، لذا لم تنضج أو تكتمل لنا حتى الآن حصيلة معرفية للتاريخ السياسي لبلدنا نستأنس بها ونعود إليها، ولم لا نستدرك على أهلها في النهاية.
فكما خلد الجزائريون: هواري بومدين، والتونسيون: رشيد عمار، والمغاربة: محمد
أوفقير وأحمد الدليمي، والسودانيون: عبد الرحمن سوار الذهب، والمصريون: سعد الدين
الشاذلي، وملأ هؤلاء القادة العسكريون الدنيا وشغلوا الناس، فلنا نحن أن نتحدث
بموضوعية عن قادتنا العسكريين الأبطال باعتزاز، بدل جلد الذات وسيطرة القراءات
المغلوطة.
لن أتحدث عن
سيرة ومسيرة الرئيس: المصطفى ولد محمد السالك العلمية والمهنية، وإنما سأتوقف عند
نقطتين فقط للإثارة وتعميق النقاش.
الأولى:
استقامة الرجل ووطنيته
والثانية:
معضلة استمرار القيادة.
وحول
الأولى، أركز على أن عدة الرجال وميزتهم وما يخلدون به ويبقى: الأثر الطيب الذي
يتركونه في نفوس الرأي العام، ثم تقوى الله سبحانه وتعالى، ثم صنائع المعروف.
والأصل أن
مهمة القادة العسكريين، حماية الثغور، والذود عن حدود الوطن ووحدته، والدفاع عن
سيادة البلاد وحوزتها الترابية، وأن ينأوا بأنفسهم عن المجال العام.
على صعيد
قيام الدولة الوطنية، رافق ذلك جملة عوامل، أدت إلى إرهاصات من التمزيق، والتفريق،
والتفتيت.
وفي هذا
الأجواء شق الرئيس المصطفى طريقه معلما مهذبا، وناهلا بوعي من الموروث الحضاري
والمعارف الجديدة المتاحة، ليغير لاحقا مساره وينتسب للمؤسسة العسكرية، ويهنأه:
ديكول، كأول ضابط عربي وإفريقي يحصل على المرتبة الأولى في الأكاديمية العسكرية
للمشاة بفرنسا.
وبرز نجمه
كقائد عسكري مغوار، عندما قضى بصرامة على أحداث 1966، ووضع حدا للدعوات العنصرية،
وبسَط الأمن بعد ارتباك مثير، وفشل العديد من المحاولات.
على أن هذه
الأحداث كانت الجرح الذي هيأ لمختلف الشروخ التي هزت الوحدة الوطنية، وألقت
بظلالها على أخوة وألفة المجتمع الواحد.
ولعبت صرامة
الرجل وأداؤه الحاكم بقوة نافذة في إبعاد الخطر، وتهدئة الأوضاع بتكليف من السلطة
السياسية الحاكمة حينها.
وأهلته
كفاءته العالية، واستقامته المشهودة لتولي قيادة أركان الجيش الوطني لمرتين: 1968،
1969.
ثم استدعاء
الرئيس: المختار له مرة ثانية، 1978، للوظيفة نفسها، للثقة والاحترام الذي طبع
علاقة الرجلين.
وهكذا تميزت
مسيرة الرجل -رحمة الله عليه- بنزاهة وصبر المعلم القدوة، وهدوء وشكيمة الضابط
القائد.
ثانيا:
معضلة استمرار القيادة
كان الرئيس:
المصطفى ولد محمد السالك إلى التداهي والتغافل أقرب منه إلى الحيلة والمكر
والخديعة، ولم يحترس من كبار معاونيه.
ولا أريد أن
أتحدث عن النيات، أو أتهم أحدا أو جهة، إنما يحضرني من معاصري الرئيس من الأوجه
المدنية وقادة الرأي: سيد أحمد ولد ابنيجاره، محمد يحظيه ولد ابريد اليل، شيخنا
ولد محمد الاقظف، حمود ولد أحمدو، عبد القادر ولد التراد كمرا، أحمد ولد الوافي.
ومن رفاقه
العسكريين: جدو ولد السالك، أحمد ولد بوسيف، كادير، أحمد سالم ولد سيدي، محمد خونه
ولد هيداله، معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، الشيخ ولد بيده.
وفي الوقت
الذي اكتسب فيه الرئيس: المصطفى شرعية ممارسة الحكم، بعد الإطاحة بنظام مدني حاز
الاستقلال، وأسهم باقتدار في مهمة التأسيس، إلا أن حمى الحرب التي كنا الحلقة
الأضعف فيها، وتردي الأوضاع، وإنهاك الاقتصاد، عوامل هيأت للتجديد وبررت دعوات
التصحيح والإنقاذ.
حكم الرجل
نحو 10 أشهر، وما يهمنا هنا هو النظر في محاولته إلى جانب أعضاء اللجنة العسكرية
للإنقاذ الوطني، وبعض الرموز المدنية من قادة الرأي فتح صفحة جديدة من تهدئة
الأوضاع، والخروج من ويلات الحرب التي كانت تعصف بالبلاد. وتؤدى إلى ما لا يحمد
عقباه، ثم استراتيجيتهم في إحلال الديمقراطية.
لم يجد
الرئيس المصطفى القدر الكافى لوضع رؤية نظام واضح المعالم، ونهج سياسي أكثر إصلاحا
وديمقراطية.
فقد باغته
بعض الطامحين إلى السلطة، والطامعين من الخارج في توتير الأجواء، فكانت الخصومات
واشتعلت رياح الاتهامات والتخوين داخل الجسم الواحد.
عندها غابت
المسوغات التي أعلن عنها لو ضع حد لنظام الرئيس: المختار ولد داداه، وتوجيه
البوصلة نحو ما هو أشمل وأرحب من حيث البناء، وفتح آفاق مستقبلية أكثر استقرارا
وتكاملا.
وبدى:
الرئيس، الذي كرمه الزعيم: ديكول ضابطا، يريد الرئيس الفرنسي: جيسكار ديستيه حينها
أن يحاصره ويضيق عليه ويضع حدا لتوجهه، عندما أصر الرئيس: المصطفى، على إبعاد
الشركات الفرنسية عن مجال الأعمال والصفقات، ومنحها لآخرين من دول ورجال أعمال
محليين.
ولقد حاول
الرئيس: المصطفى أن يخطو خطوات باتجاه الوضع الانتقالي، وتصحيح الأوضاع بإنشاء
برلمان، سماه: المجلس الاستشاري الوطني، ووأدته فرنسا في انعقاد أول دوراته:
05/05/1979، عندما أوعزت إلى أطر اترارزة، والأعضاء الزنوج بعدم الحضور، فتغيبوا
جميعهم، وكانت هذه رسالة قوية وبالغة الخطورة ومباشرة للسلطة الجديدة.
نفس الشيء
حصل مع الرئيس: المختار ولد داداه في أيامه الأخيرة، وخروج أعضاء المجلس الوطني
لحزب الشعب، واللجنة الدائمة على قراراته، وعمق أزمة الحكم حينها يناير 1978.
في هذه
الأثناء انشغلت اللجنة العسكرية بالصراعات، وصرف الأعضاء جهودهم نحو مشكلات
مفتعلة، ودخلت فرنسا على الخط لنقل المعركة إلى موقع آخر بشكل مدروس ومحسوب العواقب،
مما أدى إلى الإخفاق في تسيير الكثير من الملفات بروح التوافق، والحذر في التعامل
مع اللاعبين من الداخل، والمتربصين من الخارج.
أقنعت هذه
الصورة الرئيس: المصطفى بتقديم استقالته عن وعي وحكمة – كما عبر- معللا، أنه: أبو
الجيش الموريتاني ومن العار أن يصارع أطفاله.
إن كان لى
من تقويم أو استنتاج، فإنه يؤخذ على الرئيس: المصطفى -رحمة الله عليه- أنه سيطرت
عليه خلفية القدوة والمثالية أثناء حكمه، والتي طبعت مساره وأداءه، طيلة مسيرته
المهنية والطلائعية، بدل مراوغة القائد السياسي الواقعي، فالحرب خدعة، و(لطيفات
الحيل أنجح من القوة)، كما يقال.
ويؤخذ عليه
أيضا: طريقة التعامل مع مصير الرئيس المختار وحكومته، وأهمية الحماية الشخصية
للرئيس: المختار، بدل الإبعاد والاعتقال.
أخلص إلى أن
الرئيس المصطفى ولد محمد السالك، والرئيس: محمد محمود ولد محمد لولي، لم يريدا
الحكم، ولا حضرا له، وكانا زاهدَيْن فيه -بتعبير الأخير- لكن معطيات التحليل، وما
رشح من معلومات شحيحة يثبت أن الأحداث والظروف هي التي دفعتهما إلى الصدارة،
وتحملا المسؤولية مؤقتا في ضوء ذلك.
ولقد حمل
الرئيس: المصطفى ولد محمد السالك، لواء التغيير الهادئ، والتصحيح المأمول، كما هو منشور
في خطاباته وحماسه وقتها، وإن لم يسعفه الحظ في تجسيده كاملا، لقصر فترة حكمه، وسد
الطريق في وجه رؤيته، وسخونة الصراع والمفاصلة بين أطراف اللجنة العسكرية، وهذا
حديث يطول.
أصل المقالة: ورقة علمية معدة للندوة التأبينية للرئيس: المصطفى، نظمها، مركز: أمجاد للثقافة والتراث بنواكشوط.
د.عبد المالك ان ولد حني/ كاتب