الحلقة الرابعة والعشرون من كتاب “المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي” للمفكر العربي علي محمد الشرفاء
لقدْ عَلِمَ اللهُ سُبحانَهُ وتَعَالى بعِلمهِ الأزليِّ، أنَّ عبادَهُ مِن المسلمينَ سَوف يهجُرونَ القرآن، وسيؤدّي ابتعادُهُم عَن كتابِ اللهِ إلى تفرّقهم وتشرذمِهم، بل حُدوثِ التَّصادمِ بَينَ الفِرَقِ المختلفةِ، تلكَ التي اتّبعت كُلُّ فِرقةٍ مِنهم مَذهبًا أو عقيدةً صاغها مفهُومٌ بشري في روايات منسوبة للصحابة تتناقض مع الآيات تم نَقَلُها ممن تمت تسميتهم بعلماء الإسلام وشيوخه بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بقرنين من الزّمان استحدثت رواياتُ وأساطيرُ إسرائيليةُ وحكايات لا تتوافقُ مع القرآن الكريم نَسَبوهَا إلى بعض صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام مشكوكًا في صحتها من الناقل لها ومن المنقول عنه ومن المنسوبة إليه زورًا وظُلمًا، فاختلت بذلك المفاهيم وأضرتْ بمقاصدِ آيات القرآن الكريم واختلط المعقول باللامعقول والحق بالباطل وأوجدت حالةً من الجدل الفكرى تداخلت مع الفلسفات اليونانيّة وأساطيرِهم مع أنّ الله لم يمنحْ أيًّا مِنْ رسُلُهِ في مُختلفِ العصورِ حقَّ التشريعِ، ولئنْ حدَثَ ذلكَ فَسيُحدِثُ تصادم بيـن تشريعِ الخالق رَبِ السماواتِ والأرض العليمِ الخبيرِ وَبينَ أقوال الرُّسلِ والأنبياءِ الَّذِينَ هُم بعضٌ مَن خَلقِهِ حملوا أمانة الدعوة لدين الله لتبليغها للناس فقط فلا يملكونَ حقَّ التشريعِ أو الإضافة إلى الرسالة إنما أمرَهُم سُبحانَهُ بِحَمل رِسالتهِ للناسِ ليبينوا لهم حكمة مراد الله من آياته كَمَاهي دونَ إضافةٍ أو حذفٍ أو تعديلٍ ويشرحون لهم تكليف العبادات وشعائرها وطرق تأديتها ويعلمونهم مبادئ الأخلاق وقيم الإسلام النبيلة ويحذّروهم من المحرّمات وما يترتّب على فعلها من أضرار للإنسان وما قد يلحقه عقابا من الله يوم الحساب لذلك:
1- أمرنا اللهُ سُبحانَهُ بالوحدةِ وعدمِ التفّرُق بقوله تعالى
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران103)
فحبلُ اللهِ هو القرآن، والالتفافُ حولهَ يحقّقُ الوحدةَ والتآزرَ حتّى تَتعطل أسبابُ الفُرقَةِ وتُسدَّ أبواب الفتنة من أعداء الله والإنسانية.
وقد حذّر اللهُ سبحانه المسلمين من تصديق الروايات وما تهدف إليه من صرف المسلمين عن القرآن الكريم وإشغالهم في صراع عقائدي يؤسس لمناهج متعددة يترتب عليها ظهور مراجع دينية متناقضة تفرِّق المسلمين إلى فرق وطوائف تستثير كل فرقة الاعتزاز بمرجعيتها، والاستعلاء على غيرها من الفرق، فهم القائمون على عقيدة الحق وهم حماة رسالة الإسلام فأصبح كل فريق له مرجعيته، وكل فريق يدافع عن منهجه، حيث تتحول المناهج المختلفة إلى سجال ثم إلى قتال وذلك ما حدث في الماضي وما يحدث في عصَرنا الحاضر.
لقد خاطب الله رسوله عليه الصلاة والسلام بأن الآيات التي أنزلها الله عليه هي الحق وهي كلمات الله للناس فكيف ينصرف الناس عنها إلى روايات تستعلي على آيات الله.
2) كَمَا قالَ تَعَالى
﴿تِلْكَ آيات اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّۖ فَبِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾(الجاثية 6)
فإنّهُ تحد وتساؤل استنكارى من الله يحذر المسلمين بِعَدم اتّباع أيةِ رواياتٍ أو أحاديث َأو مفاهيمَ بشريّةٍ تُخالِفُ كلام َاللهِ، بعدما تمَّ إضفاءُ هالة من القدسيّةِ على تلكَ الرواياتِ وناقليها بالرغمِ ممّا فيها مِن تَنَاقُضٍ صَادِمٍ مع آياتِ اللهِ، فالله يريدُ لعبادِهِ التمسّك بِما جاءَ في كتابِهِ العزيز ليِحَميَهم منَ الوقوعِ في الصراعِ والتقاتلِ يريدُ لهمْ الخير َوالسعادةَ في الدنيَا والآخرةِ وأن تكونَ لهمْ مرجعيةٌ واحدةٌ هي القرآن الكريمُ، الخطابُ الإلهي، وأن يتبعوا إمامًا واحدًا، محمد رسول الله الذي بعثه الله وحده رحمة للعالمين ليدعوهم لما يصلحهم ويهديهم إلى طريق الخير والسلام، فخالف المسلمون أوامر ربهم وانصرفوا بالروايات عن الآيات، بدليل ما تؤكده الآية التالية أن الرسول يشتكي أمته بابتعادهم عن القرآن الكريم ولم يتبعوا آياته فقالَ سُبحانَهُ وتَعَالى
﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قوْمِي اتَّخَذُوا هذَا القرآن مَهْجُورًا﴾ (الفرقان 30)
3) فماذا ستكون حجة القوم الذين تولون الدعوة والإرشاد واختزلوا تفسير القرآن ومنعوا الناس من التدبر في آيات الله أمام الخالق سبحانه يوم الحساب بأنهم هَجَروا القرآن، منبهًا بالرغم من تحذير الله لهم منذ أربعة عشر قرنًا من خطورةِ الابتعادِ عنِ القرآن والتقيّدِ بأوامرِ اللهِ وتشريعاتهِ في ما نِصَّ عليهِ القرآن الكريم ُدستورًا منَ اللهِ ليضيءَ لهم طريقَ الحياةِ، ويعينَهم على تحقيقِ السَّعادة ِفي الدنيا، ويؤمّنَ لهمْ حَياةً طيبةً في الآخرةِ، ويسكنَهم جناتِ النعيم. وإذا كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يشتكي أُمتهُ للهِ سُبحانَهُ، بأنّهم هجروا القرآن تحذيرًا للمسلمينَ مما سيؤدى بهم إلى الانصراف عن القرآن الكريم ونتائجه الكارثية عليهم فكأنّ الآية تُنْبِئ ُالرسول بأنَّ قومه سيفعلونَ ذلك وسيهجرون القرآن ويتبعون أقوال الشيطان وأولياؤه فالله يأمرهم بالتمسك بكتابه وعَدَم تصديقِ الروايات أو اتّباعِ الإشاعات أو الإسرائيليات التي تَدّعي على لسان ِرسول ِاللهِ افتراءً وكذبًا، تتعارض مع القرآن بغيةَ تحقيقِ مصالحَ دنيويةٍ لتثير الفتن بين المسلمين وتهدم مرجعّيةَ القرآن منِ قِبَلِ أعداءِ اللهِ وأعداءِ المسلمين وتحقق مصالح المغرضين الذين لا يريدون خيرًا للمسلمين.
4-لقد وضَعَ اللهُ سُبحانَهُ وتَعَالى َتشريعًا لخلقهِ مبنّيًا على حُرية الاعتقادِ والعدالةِ بأعظمِ صفاتِها، حَيثَ يقولُ سُبحانَهُ
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْۖ فَمَن شاءَ فلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْۚ إِنَّا أعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ (الكهف 29)
وهي آيةٌ فيها من البيانِ والوضوحِ مؤكدة حريةِ الاعتقادِ واَلاختيارِ لكل إنسان وعندما يُخاطبُ الله نبيّهُ يبين له أنَّ الإيمان لا يتم بالإكراه والله سبحانه لديه القدرة أن يجعل الناس جميعًا مؤمنين ولكن اقتضت حكمته بمنحه الإنسان حرية الاختيار التي على أساسها سيتم محاسبة الناس على إيمانهم وأعمالهم كما قال سبحانه
﴿وَلَوشاء َرَبُّكَ لَآمَن َمَن فِي الأرض كُلُّهُم جَميعًا أفَأنت َتُكرِهُ النّاسَ حَتّى يَكونوا مُؤمِنينَ﴾(يونس99).
وتتكرّرُ ذاتُ المفاهيم وتلك المقاصدِ في أكثر من مرةٍ، بغضِّ النظرِ عَن طبيعةِ ومعرفةِ التبعاتِ الناشئةِ عن هذه الحريةِ، لكنّ اللهَ سُبحانَه ُوتَعَالى لم يعطِ حقّهُ لغيره في محاسبةِ عبادهِ، بل أبقى له هذا الحقَّ حَصْرًا، حيثُ قالَ تَعَالى مُخاطبًا نبّيَهُ صلّى اللهُ عليه وسلم بقوله
﴿ وَإِنما نُرِيَنَّكَ بَعضَ الَّذي نَعِدُهُم أو نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيكَ البَلاغُ وَعَلَينَا الحِسابُ﴾(الرعد 40).
ويتكرّر التوجيهُ والتوضيحُ، بشأن صلاحياتِ الرسولِ صلى اللهُ عليه وسلَم فقال تَعَالى
﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْۖ فَمَن ْأَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾(الأنعام 104 )
وقَالَ تَعَالى ﴿إِنَّا أنزَلْنَا عَلَيَكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ ۖوَمَن ضَلّ َفَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَاۖ وَمَا أنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ (الزمر 41)
إنّ الأحكامَ الإلهية واضحةٌ جليةُ حدَّد فيها المولى عَزّ وجلَّ مسؤوليةَ الأنبياءِ ومسؤوليةَ خلقِهِ منْ خلالِ استقبالِ الرسالةِ، وتبليغِ الأنبياء للناسِ بأنّ لهمْ الحقَ في اختيارِ الدينِ الَّذِي يريدونَ بمنتهى الحُرية، وأنَّ حسابَهم عند اللهِ جميعًا، وقال تعالى
(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ )(البقرة 281)
وكَما قالَ تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾(المدثر 38)
إنَّ الخالقَ جلَّ وعلا لم يمنحْ أيَّ نبـّيٍ أو رسول ٍالحقَّ في أن يشاركَه في التشريعِ لخلقهِ ومحاسبةِ عبادِهِ على اختياراتِهم الدينيّة، فاحتفظَ بحقِ التشريعِ والِحسابِ لهُ وحده، وكلّفَ الأنبياءَ والرسلَ بالتبليغِ والشرحِ والتوضيحِ لمرادِ اللهِ في كلِّ آيةٍ من كتابهِ الكريم، ومن هنا نَرى في هذا العصر صورةً واضحةً للفُرقةِ بيـنَ الـمسلمينَ بالرغم من تحذيره سُبحانَهُ بعدَم التفَرُّق، وعدم هَجْر القرآن، بل بالاعتصامِ به لِيَحْمِينَا من شرورِ أنفسنا ويجمعَنا على كلمةٍ واحدةٍ لبناءِ مجتمعِ العدلِ والمحبةِ والسلامِ والرحمةِ للبشرية.
ويؤكدُ اللهُ سُبحانَهُ وتَعَالى على التمسكِ بالقرآن الكريم وليس بغيره؛ لتستقيمَ حياةُ الناسِ والاعتصام بما أنزله اللهُ على رسولهِ في كتابهِ الكريمِ تنفيذًا لقولِهِ سُبحانَهُ
﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الزَخَرف 43)
ويؤكّد السياقُ القرآنيُ قوله تعالى ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْألُونَ﴾ (الزخرف 44)
إنَّ مظاهرَ هجرِ القرآن الكريمِ كثيرةٌ، وما حذّرنا منه سُبحانَهُ وتَعَالى منذُ أكثرَ من أربعةَ عَشَر قرنًا تبدو جليةً للعيانِ بأنّ المسلمينَ لم يتمسكوا بالقرآنِ ويلتزموا بالمنهج الإلهي، مما أدّى إلى هبوطِ المستوى الإيمانيّ والأخلاقيِ والثقافيِ والأدبيِ، وصارَ الناسُ لا يتدبرون في معاني القرآن الكريمِ ولا مقاصِدَه! ولا يؤدون فريضة التفكر في آياته ولا يتخذون من آيات الله ميزانًا على الروايات لاكتشاف الحقِّ من الباطل، وقد تحدى الله سبحانه أهل الروايات بقوله
(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة 32)
فلن يستطيع أولئك المجرمون إطفاء نور الله بالروايات والإسرائيليات بأقوالهم المسمومة وستعلو كلمة الله فى الأرض مهما افترى الحاقدون على الله ورسوله بالكذب والبهتان.
لقد ترتب على ذلك خلطٌ والتباسٌ كبيرٌ عند الناس بين مراد الله في الآيات، وبين الأهداف الخبيثة في الروايات، وتسبب ذلك الأمر أنْ فَقَدت العقولُ بُوَصلَتَها وتجمَّدَ التفكيرُ لديها، فلم تعدْ قادرة على فَهم رسالة الإسلام ومقاصدِ آيات الله لخلقه، ليؤسّسوا عليها تشريعاتٍ وقوانينَ تُنظّم العلاقاتِ الإنسانيةَ فيما بينَهم على أساسٍ من الرحمةِ والعدلِ والمساواةِ والسلامِ.