بعيدا عن السياسة.. المثقف بين الغرور والضمور/الولي ولد سيدي هيبه

نشر المقال في 17 ابريل 2016 تحت عنوان : المثقف بين فخ الغرور وخفوت الظهور/ الولي ولد سيدي

في المفهوم الاصطلاحي المثقف هو، “ناقدٌ اجتماعيٌّ، همُّه أن يحدِّد، ويحلِّل، ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل؛ نظامٍ أكثر إنسانية، وأكثر عقلانية، كما أنه الممثِّل لقوَّةٍ محرِّكةٍ اجتماعيًّا، “يمتلك من خلالها القدرةَ على تطوير المجتمع، من خلال تطوير أفكار هذا المجتمع ومفاهيمه الضرورية.
كما يسعى المثقف إلى صياغة ضمير مجتمعه ليتجه اتجاها رشيدا، ويؤثر على قراراته الكبرى، وهو مَن لديه القدرة على التفاعل والتعامل مع الأفكار والثقافات المختلفة وحمل الحقيقة في وجه القوة.
وهو المتعلم، الذي يعتبر بمستوياته، المعرفية العالية، لسان حال المجتمع، يتبنى قضاياه ويدافع عنها، فلا يجوز له أن يتخلَّى أو يتقاعس أو ينظر إليها نظرةً فوقيةً، تفوِّت عليه القيام بدوره الحقيقي في الوسط الاجتماعي.
ولكي يكون المثقف أكثر مصداقيةً ينبغي عليه أن يكون أول المُضحٍّين من أجل الأمة وقضاياها المصيرية، والأكثر تشبثا بالقيم والتزاما بالمبادئ، محتكمًا في كل ذلك إلى التعاليم الدينية والأسس الأخلاقية والمدنية. وهو كل ذلك شخص يصيغ وينتج الأفكار بالأساس، يتمتع ببعد الظر الاستشرافي والوعي التنويري، التجديدي، والإصلاحي، وصاحب اطّلاع واسع وقدرة كبيرة على التجديد المعرفي، يستمد احترامه ومكانته من قيمة ما ينتجه ويقدمه من الأفكار البناءة.
وإذا كان المثقف في كل مكان من العالم يتصف بهذه المواصفات النبيلة، والعلامات البارزة، والمهام العالية، والمسار الحياتي العامر بالعطاء، والحضور الجميل، وبالتضحية المثمرة، والصدق في الأداء، فكيف لا يكون مثقفو هذه البلاد على تماس مع رسالات ومفاهيم ومقاصد شهاداتهم العالية ومعارفهم المتنوعة وتخصصاتهم المتعددة وقد شملت كل المجلات التقنية والعلمية والعلوم الانسانية؟
وكيف يفسر هؤلاء تدني الوضع الثقافي والمعرفي والعملي الميداني القائم إلى حد غياب صفات الوعي وعلامات النضج؟
وبماذا يبررون ترهل المستوى الفكري وخواء وهجر ساحة العطاء بكل أشكاله ومختلف مستوياته إلا ما يكون من :
· الظهور الباهت الغرضي الصرف إلى تلميع بَعد اغبرار،
· أو تقديم لظرف سياسي طارئ،
· أو مقام وظيفي سانح،
· أو قصد تحصيلي موات،
· أو انكشاف في التوقيت الجاهلي “يوم لك” فخذ به قبل “اليوم الذي عليك” و قد وجب تجنبه بما أمكن.
وكيف يرضون بهذا المقام؟ أم أنهم كما قال ذات زمن سحيق قس بن ساعدة الأيادي “أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا؟ تبا لأرباب الغافلة”.
ومهما يكن فإن الوضع الثقافي الجاثم بكل ملامح وصفات الضعف لا يطمئن على استواء عود الأجيال الحاضرة الذي ما زال غضا طريا ينتظر من بيده استقامته، فلا:
ـ الأكشاك والمكتبات تنادي إليها بزاخر المؤلفات المفيدة لتشكل فضاءات تنوير وأصاحبها مرجعيات للطلاب والدارسين والباحثين المهنيين والحرفيين والمهتمين بالفنون والآداب والعلوم الإنسانية،
ـ ولا النوادي الفكرية والفنية والإعلامية تضيء سماء المدن لتهذب وتصقل النفوس وتقوم السلوك المدني والمسلكيات التعاملية من وعثاء السفر اليومي في فضاءات وجنبات سوح الكفاح الحياتي،
ـ ولا المسارح وقاعات العروض الملتزمة تبين عن وجود فبالأحرى عن عطاء يربي ويؤدب النفوس و يرفع مستوى الوعي الذي يهدي إلى البناء و التشييد و التحليق عاليا في سماء الرقي النفسي و المادي
وبالطبع فإن غياب المثقف عندما يصاب بالغرور إنما يجني به على مجتمعه الذي يعول عليه لرفع وتيرة الوعي لديه وحمله عاليا إلى مستويات معتبرة من الرقي النفسي والمادي بأن يخذله ويترفع عليه متأففا ومستكبرا، ثم ما يلبث أن يجني على نفسه فيصبح كالفقاعة التي ينفخها الهواء بعد أن يملأها خواء لتنفجر وتتناثر أشلاؤها العديمة التي سرعان ما تغيب عن الأنظار التي تقدر الأحجام والأوزان والأشكال.
ومما لا شك فيه أن هذا الغرور وإن كان له، ولو بأدنى وأخف التجليات في الواقع ما يبرره في ساحة هذا البلد الثقافية القاحلة والجافة الينابيع، فإنه غرور لا يسعفه أداء ولا مخرج ولا دوي سمعة، اللهم ما يكون من ارتكاس فكري حمل:
· البعض الكثير على الانحدار إلى غياهب الماضي و الانغماس في اعتباراته التي كانت رغما عنها و لحالك الفترة و غياب أسباب العدل على الرغم من حضور الدين القيم، ترفع من غير رفعة و تضع من غير نقص، ليوهم هؤلاء أنهم الوارثون لـ”عظمة” كانت،
· و البعض الآخر اعتادوا على الرضوخ والاستسلام لقوة الرداءة والميوعة وتقوقعوا على ذوات خائرة لا تقاوم فيضيعوا على البلد ومستقبله فرصة ما كانوا يشكلون و يمثلون له من بذور الزرع المؤمل.
فهل، بتوفيق من الله وإقبال على التصحيح، يدرك هؤلاء استعجالية ذلك فينفضوا وينتفضوا غيرة للوطن وثورة على الضياع؟

الرباط 17-03-2023

زر الذهاب إلى الأعلى