عندما تصبح صفحة الجهاد مقاومة للنسيان

الولي ولد سيدي ميبة

لا شك أن دخول الاستعمار إلى فضاء هذه البلاد، الرحب الذي لم يعرف قبله “مفهوم” الدولة المركزية، واجه رفضا قاطعا وعاما حمل طابع وعنوان “الجهاد” غيرة شديدة على المعتقد من “النصارى”. وهو الجهاد الذي دعت له كل إمارات أهل “الشوكة” وجميع مشيخات أهل “القلم” من بعدما لم تكن تتفق جميعها إلا نادرا ولا تهدأ أو تكف أحلافها عن الشجار على نقاط الماء ومراعي الكلأ أحيانا، ولأسباب أخرى تكثر وتقل بحسب المزاج الذي يصنه الزمن الذي يحسن تارة فيعم الخير وتهدأ النفوس، ويخشن تارة أخرى فيجر القحطُ أذياله على الجميع وتشتعل نار الخلافات على القليل الموجود ليطمع القوي في الضعيف فيغير عليه بلا رحمة أو مراعاة للحقوق. بالطبع برز مجاهدون لمعت أسماؤهم وتوطنت النفوس والذاكرة، وجررت مواجهات كثيرة علم المستعمر من نتائجها المبهرة بأس أهل البلد واستعصاء المساس بمعتقدهم وجوهر سلوكهم على الرغم من الظلم الشديد الذي كان يقع من بعض الساكنة على البعض ومخالفتهم تعاليم الدين الحنيف بشأن العدل في الأرض والمساواة بين الناس. كما أن الاستعمار لاحظ بدهائه واقع الفوضى والظلم من جهة، وأن أمر التنصير والمساس بالمعتقد مستحيل الحصول فأصفح عن الأمر من جهة أخرى، وقام بعرض “المهادنة” على أسس التعاون من أجل تأسيس “الدولة الغائبة” بكل أركانها ومفاهيمها في الفضاء “السائب”. وانبرى له إلى ذلك شيوخ ذوو قدر وأمراء ذوو شأن راهنوا على إحلال العدل وتعميم السلام والإمساك بزمام البلد في حدود معلومة مضبوطة تصد الأطماع من كل الجهات. هذا الاجتهاد الذي لا يقل قيمة “جهادية” هو الذي هيأ الأسباب لقيام دولة القانون والمساواة، الأمر الذي ما كان ليثمر أبدا لولا اجتهاد “الجهاد المقدس” السابق وقد آتى أكله في صد المستعمر عن قصد المساس بالمعتقد وأجبره على القبول بفكرة الاستقلال في نهاية المطاف. من هنا كان لزاما على مؤرخي البلد أن يجتهدوا على كتابة متأنية، متحرية، صادقة، محايدة، متجردة وأمينة لفصول الجهاد العظيم بشقيه بعيدا عن الأسطورية والكرنفالية والنفعية، وأن ينتجوا للأجيال مادة تاريخية مكتوبة وموثقة، منقاة من الشطط والاسطورية والخرافة، ومن إذكاء النعرات القبلية والحزازات العشائرية والمنافسات الأسرية التي كان من المفروض أن يكون عهدها قد ولى، لا أن يترك هذا الأمر لغير المتخصصين وباعة “العروض” و”صكوك” المشاركة المنتحلة في صفحة الجهاد الناصعة حتى بات “المجاهدون الوهميون” يزاحمون في الذكر من جاهدوا حق الجهاد في الله ولم يفعلوا للذكر المقبوض الثمن كما يقبض ثمن المدن التاريخية بلا مقابل لها، والأدب بلا منتج ملتزم، الجوائز المالية التي توزع على الأعمال البحثية الوهمية أو الضحلة.

زر الذهاب إلى الأعلى