بعيدا عن السياسة… شخصيات منفية من متن الكتاب/الولي سيدي هيبه
تصفحت مليا كتاب المخلدين الذين قضوا نحبهم وبقي لهم ذكر، فاندهشت لغياب المعيارية المنصفة وصدمني حجم الانتقائية الصارخة للشخصيات المستهدفة وتضخيم مآثرها – إن كان لها من وجود – وتعمد تحييد مطلق لشخصيات بلغت بالجهد وقوة الإرادة والنبوغ شأنا عظيما، وتم التعتيم عليها قبل نفيها جورا من متن الكتاب.
إذا كان سيداتي ولد أبه من الفنانين الأوائل الذين وضعوا مبكرا فنهم في خدمة الجهاد ضد الاستعمار الفرنسي، وانخراط في صف المجاهدين بالكلمة الصادقة والنغم المحفز للهمم، واختار طريق الالتزام بالقيم الدينية والحضارية والوطنية من أجل التحرر والانعتاق، فإنه لم يوف حقه من التقدير والاعتبار في بلاد اعتادت فيها نخب “الرجعية” على الاحتكار والإنكار لكل شيء بقوة التحايل.
ففي حين استحوذت هذه النخب، وتحت دثار “الفوقية” بادعاء الانفراد بسمو المحتد والنقاء الانتمائي، والاسٍتئثار بالمحامد التي شابها الاستبداد وغمط الحقوق وإنكار أدوار “المُستغَلْين” تحت طائلة “الدونية” الموصومين بها ولعنة الطبقية، فإن الفنانين من بين هذه الشرائح المصنفة – في تناقض كبير مع ذلك – ظلوا “المؤتمنين” على تسجيل الأحداث طيلة “مسيرة البقاء”، و”الموثقين” بأمانة لتفاصيل الأحداث وسجل الأيام.
لقد استطاع الفنان الكبير سيداتي ولد آٍبه، مع آخرين ينتظرون إنصافهم وإياه، أن يقدم خلال حياته الحافلة بالعطاء، كل ألوان الفن، بكل مجالاته، ولم يسجل، مطلقا، مسارا في الفحش، والبذاءة والمحرم يقينا، كما سجلت له الذاكرة الفنية، في الفضاء “الحساني” عموما و”الموريتاني” على وجه الخصوص، أعمالا خالدة خدمت الوطن وحافظت على القيم الحضارية والإنسانية والبشرية، ودورا كبيرا في تزكية العواطف النبيلة، والأخلاق العالية.
ومن أهم أعماله الخالدة تلحين أول مقطع موسيقي عبر عن هوية “الدولة الوليدة” من رحم “اللا دولة” وواكب بفنه الملتزم أولى خطواتها على طريق التأسيس العمليٍ والقيام على الأسس الحديثة والانخراط في ركب الأمم، باعتباره “لحن” أول نشيد وطني رسمي. وهو من لحن وعزف أيضا على ألة “التيدنيت” المقطع الذي باتت تفتتح به المناسبات الوطنية الكبرى من بعد التأسيس ليظل ردحا “اللحن المميز لبداية انطلاق بث مسطرة البرامج الإذاعية.
وبالطبع لم تتوقف الأعمال الوطنية التي قدمها الفنان الرمز والشاعر الكبير عند هذا الحد، وهو من كان يواكب الأحداث الكبرى بهمة عالية ترجمها إلى إبداعات نصية أدبية فريدة وقطع موسيقية رائعة أولها النشيد الوطني الخالد الذي أبدع فيه، وأناشيد صك العملة الوطنية “الأوقية” على إثر قرار خروج البلاد من دائرة “الفرنك”، وتأميم الشركات الوطنية والحملات التوعوية حول مكافحة الجهل والمرض.
وبرحيل الفنان الكبير سيداتي ولد آبه، عميدا للفنانين الموريتانيين، ملحن نشيد الاستقلال، في صمت فرضته أنتقائية إقطاعية “ثقافية” متحجرة في الزمان و متبلدة في المكان، وهو الجدير بأن يصنف رمزا وطنيا ومرجعا فنيا وأدبيا، يُغرد كل مثقف ومؤرخ بنعيه، وأن تتشح الأر ض غِبّ رحيله بالسواد كما فعلت عند رحيل كل واحد من أترابه.
ولم يكن سيداتي ولد آبه، كما كتب أحدهم من القلائل الذين نعوه بما يليق بمكانته التي نحت لنفسه بجدارة وعبقرية : “…مجرد نسمة في تعداد سكان هذه البلاد ، كان حضارة ، كان اجتماعيا أنيقا مرهف الحس رفيع الذوق ذا أنفة محببا كريما طلق المحيا حسن الأخلاق.
ولو كانت اليونسكو أنصفته لصنفته ” كنزا بشريا يمشي على قدمين” كان تراث أمة احترق وبنيان قوم تهدم، كان شاعرا أنتج روائع من الشعر الحساني لا تقل جودة عن شعر ولد آدبه وأضرابه ، وأحيا من ألحان وأشوار وأوزان التراث مان كان سيضيع لولاه”.