بين الطوباوية والبرغماتية/ الولي سيدي هيبه
اثبتت دراسات قيمة أن أكثر ساكنة المعمورة جنوحا إلى السلم هم ساكنة ضفاف الأنهار، التي تكسبها هدوء جريان مياهها العذبة والتعلق كنباتاتها بانتماء جذورها لأراضيها الخصبة، حتى باتت بعض الأنهار مقدسة كنهر الغانج في الهند، وارتباط وجود بعض الحضارات بها كالحضارة الفرعونية حيث قيل إن مصر هبة النيل Don du Nil وحضارة الرافدين دجلة والفرات (LeTigre et l’Euphrate) الهنود الحمر بالأمازون (L’Amazone)، والأمثلة كثيرة على هدوء شعوب ضفاف الأنهار. وبالطبع فإن القرآن الكريم يظل في طليعة المثمنين لقيمة الأنهار حيث يعد الله أهل الجنة بأنهار من خمر ولبن.
انبرت منذ فوز الرئيس باسيرو ديوماي فاي، في الانتخابات السينغالية الأخيرة، بعض الأقلام تكتب بغزارة عما اسماه اصحابها عن ملامح “خطر داهم” تلوح بوادره من الجارة “السينغال”.
والحقيقة أن أسباب وعناوين هذه الأخطار المحتملة والتي تذكر بها الاقلام المتحمسة هذه، ليست بجديدة عند سياسيي ومثقفي وإعلاميي البلد ولا على حتى على مسامع عامة الشعب، ولا هي أيضا مفاجئة للحكام الذين يعلمون عنها منذ أكثر من ثلاثة عقود وأكثر، وقد تسببت مرارا في جدال وملاسنات عبر المنابر الخطابية الصوتية والمرئية، وفي الصحف الورقية ونوافذ المواقع الالكترونية وبوابات المنصات وصفحات مجموعات التواصل الاجتماعي وحسابات الفيسبوك و”أكس” وغيرهما، وفي ونشوب أزمات متفاوتة الحدة بين حكومات البلدين وصلت في بعض الاحيان حد الإعلان عن خيار قطع العلاقات، كما آلت أيضا إلى الدفع بالجيوش إلى الحدود ورفع جاهزيتها القتالية تحسبا لأي انزلاق قد يحدث.
وأيضا ليس جديدا أن جميع حكومات “الجارة” تدرك، عند كل مرة تثير فيها جدلا على خلفية أزماتها السياسية الداخلية، أن السلطات الموريتانية تتمتع بحزم ويقظة وإحاطة وتحسب لأي انزلاق من ناحية، وأن الشعب الموريتاني يتحلى بالنضج الوطني والحس الأمني العالي الذي يجعله يقدر ويدعم دائما هذه المواقف من خلال الانسجام الواعي والفوري معها فهما وتعاملا وسلوكا من جهة أخرى.
وأما الحقيقة الثانية التي كان الموريتانيون قادة وحكومات وشعبا لا يزالون يحسبون لها ما تستوجب من الحسابات العملية ويعدون لها ما تستحق من المواقف الحاسمة، على ضوء إدراكهم العميق بوجود تيارات سياسية في السينغال لها حسابات خطيرة عناوينها العنصرية والعدوانية والكراهية ضد موريتانيا، تسندها في الداخل خلايا ذات نزعة ميالة إلى زعزعة الاستقرار وتهديد الأمن والسكينة؛ وإذ لا تُلزم هذه التيارات الشاذة إلا قياداتِها، فإنها لا تؤثر في لحمة قوية بين كل مكونات البلد، قوامها الدين واواصر القربى والمعتقد الواحد وقواسم التاريخ المتداخل والمصالح المشتركة.
أما وأن رئاسة السينغال قد آلت الى الرئيس الجديد باسيرو اديوماي فاي بشكل ديمقراطي تناوبي حمته وأقامته مؤسسات ديمقراطية تحلت بالحزم والكفاءة والاستقلالية، فإن عهد الخطب الحماسية والوعود “الطوباوية” قد ولى وإن “البراغماتية” السياسية والحكامة المتوازنة ستتغلبان على المستحيل وتعكفان على تحقيق الممكن البناء. وليس أولى عند كل حكم جديد من الاستقرار والعلاقات الحسنة مع الجوار الذي سيظل قائما بعدما ينتهي وقت كل حكم استوفى وقته.
إن السنغال وموريتانيا جارتان تشربان ماء نهر مشترك ظل، منذ مئات السنين، عامل إخاء ورافد تواصل، وكل المرجحات المنطقية توحي بأنه كما كان سيظل يلقن الأجيال كيف تنساب هادئة العلاقات الحسنة “ضفتان لا تبغيان “، بينهما نهر إخاء “برزخ”.