“الغزواني الصوفي الحازم والوسطي رئيسا لموريتانيا”/سامي اكليب

لم يكن المشهد الذي قدَّمته موريتانيا للعالم أمس مألوفا في الوطن العربي، رئيسان جالسان على المنصة نفسها، أولهما محمد ولد عبد العزيز المنتهية ولايته بعد ١٠ سنوات ضَبطَ فيها الأمن وقاتل الإرهاب وطرد السفير الإسرائيلي وأحدث بداية نهضة اقتصادية واجتماعية جيدة وحافظ على استقلالية لافتة، والثاني الرئيس المنتخب محمد ولد الغزاوني الذي بادر شعبه بخطاب التنصيب قائلا انه سيكون رئيسا لكل الموريتانيين شاكرا من انتخبه وشاكرا أيضا من اختار المعارضة التي اعتبرها ضرورية ليستوي الوطن دون تفرقة ولا عنصرية، ومشددا على رفض أي املاءات.

لم يكن المشهد مألوفا أيضا مع حضور رئيس وزراء المغرب د. سعد الدين العثماني ونظيره الجزائري نور الدين بدوي، وبينهما الرئيس إبراهيم غالي. فموريتانيا تعترف بالجمهورية الصحراوية بينما المغرب يعتبرها من الأقاليم المغربية، وكان هذا ولا يزال سببا لحساسية مضبوطة بين نواكشوط والرباط. لعل هذه الوسطية سترسم معالم العهد الجديد بقيادة الغزواني المعروف بحزمه وهدوئه وحفاظه على واحدة من سمات الشعب الموريتاني العريق، أي الاعتدال حيال الصراعات الكبرى والالتزام بالقضايا العربية وبدعم فلسطين.

شهد عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز برودة بالعلاقات مع المغرب حيث لم يلتق الرئيس والملك ثنائيا طيلة العهد، وقطعت العلاقات مع قطر حين جاءه أميرها ينصح باشراك الإسلاميين قبل وقوف نواكشوط الى جانب السعودية والامارات ( وثمة من يتحدث عن أسباب أخرى لها علاقة باستضافة الرباط والدوحة معارضين موريتانيين)، لكن الرجل بقي صلبا في موقفه حيال سوريا، فلم يقبل بأقل من وضع العلم السوري في القمة العربية التي استضافتها بلاده، ولم يقطع العلاقات مع دمشق وفتح الأبواب لكل السوريين ( وربما قريبا يزور وفد برلماني موريتاني دمشق)، كذلك بقي صلبا وشهما حيال فلسطين، فجرف السفارة الإسرائيلية حين قتلت إسرائيل أطفال غزة، وأقام مجسّما امام السفارة الاميركية لقبة الصخرة وأطلق على الشارع المحاذي اسم ” القدس”، بحيث لو اردت أن تذهب الى السفارة الاميركية عليك ان تسأل عن شارع القدس، ولو فتح الدبلوماسي الاميركي نافذته سيرى المجسم وعلم فلسطين.

الرئيس الجديد، رفيق وصديق وشريك في السلطة منذ سنوات طويلة لمحمد ولد عبد العزيز. ترافقا على مقاعد الدراسة ثم في معارج السلطة، فكان الغزواني عقلا عسكريا حازما لضبط الأمن وإعادة تشكيل المؤسسة العسكرية، بينما  ولد عبد العزيز العريق بالأمن والجيش أيضا راح يمارس دور الرئيس بامتياز.

وحين كانت الأمور تاريخيا تنحرف عن مسارها كان الرجلان سويا هنا لقلب أي رئيس منذ اطاحتهما بمعاوية ولد الطايع الذي كان ارتكب ” عار” العلاقة مع إسرائيل وفق ما يقول كثيرون من الشعب الموريتاني النابض قلبه على قلوب العرب. رغم ذلك فقد تجد اليوم أوفياء لمعاوية ولو بخجل خصوصا من أبناء منطقته. ففي موريتانيا الوفاء قيمة كبيرة، وكذلك القبلية لا تزال تلعب دورا تماما كما تلعب أيضا أدوارا الطرق الصوفية العريقة.

والرئيس الجديد هادئ الطباع، يوحي بقامته الطويلة ونظارتيه بانه بروفسور جامعي، يعرف عن المتنبي بقدر ما يعرف بالسياسة والأدب والعسكر كما يقول عارفوه المقرّبون. والده كان شيخا، وهو ابن عائلة صوفية عريقة، ما يعني أنه يُدرك تماما كيفية مخاطبة شعبه والتوازنات الدقيقة فيه أكانت قبلية او جهوية أو دينية في بلد كل أهله من المسلمين السنة المالكيين والمنفتحين على كل المذاهب الاخرى. وقد أخبرني محام وناشط سياسي وحقوقي كبير اليوم في موريتانيا كان على علاقة وطيدة بعبد العزيز أن ” أعداء الرئيسين هم ذاتهم” بمعنى أن الرئيس الغزواني سيكمل ما بدأه مع عبد الرئيس المنتهية ولايته ويطوره في كل المجالات ولن يتسامح مع التشدد الإسلامي.

” يشعر الموريتاني اليوم بالاطمئنان” يقول بروفسور جامعي موريتاني. فالرئيس الجديد حازم في قضايا الأمن، مرنٌ في السياسة، ووسطيٌ حيال الصراعات الإقليمية، وحكيمٌ في البحث عن حلول لا مصادمات، ومتواضع في علاقته مع الناس.

في الحديث عن الوسطية والاعتدال، كم كان جميلا أن نرى في حفل التنصيب رئيس المجلس الدستوري جالو مامادو باتيا الأسود البشرة والأبيض القلب والسريرة والموسوعي المعارف، يوشّح الرئيس الجديد بالوسام الكبير، ويلقى خطابين بالعربية والفرنسية( فرنسيته أفضل من عربيته) رائعي المضمون هادفين ذكيين، ركّز فيهما على التلاحم الوطني الكبير بين أعراق هذا الشعب العريق. وكان رائعا أيضا أن تكون المرأة الموريتانية في قمة المجلس الدستوري خلال الحفل .

حسنا فعل مامادو باتيا، وحسنا خصوصا فعل الرئيس الغزواني في خطابه الزاخر بالوعود حول وحدة العشب واللحمة الوطنية وعدم التفرقة والتمييز. ذلك ان ثمة من يُعدّ منذ سنوات لموريتانيا أساليب متنوعة للفتنة تركّز على العنصر الزنجي في البلاد. فهذه وزارة الخارجية الاميركية تصدر قبل أيام واحدا من تقاريرها المعلّبة للتأكيد على ان في البلاد عبودية وعدم احترام لحقوق الانسان. غاب مثل هذه التقارير تماما حين أقدم معاوية ولد الطايع على فتح علاقة مع إسرائيل. واللبيب من الإشارة يفهم، لكن من عنده كرامة يفهم ولا ينفذ املاءات خارجية، ويقال ان ولد عبد العزيز كاد يطرد السفير الأميركي مرة حين فاتحه بمواضيع كهذه ونصحه بالاهتمام بالشؤون الداخلية لأميركا وعدم التدخل في موريتانيا. ولن يُبدِ الغزواني حزما أقل في الكرامة الوطنية.

ولان الدول التي عندها كرامة يحترمها العالم ويقاطعها متخاذلو العرب، فقد حضر من أميركا جون ديفر الكسندر مستشار الرئيس دونالد ترامب لشؤون الطاقة والاستثمارات في بلد يعد بكثير من الثروة الغازية، وحضر من روسيا مساعد وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، وبعث الرئيس الفرنسي جان جاك بريداي رئيس لجنة الدفاع الوطني والقوات المسلحة في البرلمان، كما حضر قادة كثيرون من الجوار الافريقي إضافة الى أكثر من ٥ ألاف مدعو.

ساستعير من صديقي الكبير محمدن ولد شدّو أبرز حقوقيي موريتانيا قوله للرئيس المنتهية ولايته بيت الشعر القائل :” دخلتَ علينا ذات ليلة/ فرائحة التاريخ مسكٌ وعنبر” وأتمنى للشعب الموريتاني المحب والعريق والأصيل عنبر الرفاهية والاستقرار والآمان، وان ينجح رئيسه الجديد السيد الغزواني في أن يحقق له كل ما تضمنه خطابه من وعود دقيقة وعميقة تتعلق بالمواطنة والرفاهية والمهنية في العمل والوظائف وعدم التمييز والاستمرار في النمو والتقدم حتى تصبح هذه الدولة العاشقة لقضايا العرب أجمل وأفضل الدول، لأنها تستحق. وأتمنى أن نعود يوما ونقول للغزواني ما قال الشاعر:” أنجزَ حرٌّ ما وعد”.
اليوم أودع هذا البلد الأصيل وفي قلبي حبٌ أوسع من الصحراء وأجمل من ضوء القمر فوق خيمة ونخلة وناقة، على أمل اللقاء قريبا باذن الله.

زر الذهاب إلى الأعلى