الأمن الإقليمي بين احتياجات الشعوب ومصالح الدول ومراكز الهيمنة العالمية «دراسة»

إعداد الباحث: أحمد شيخو

الأمن الإقليمي(REGIONAL SECURITY) للشعوب والمجتمعات والدول في الشرق الأوسط معضلة حقيقية، تبحث عن الحل منذ الحرب العالمية الأولى ووصولاً للحرب العالمية الثالثة الحالية والمستمرة، هذه الأزمة التي بدأت مع تشكل المشهد الإقليمي الدولتي السلطوي في الشرق الأوسط والمستمر منذ حوالي مئة سنة إلى اليوم لخدمة أجندات بعض القوى في الإقليم والخارج. إن مسألة الأمن وبمستوياته الذاتية والإقليمية والعالمية، تحتاج من الجميع نقاشاً جاداً ومفتوحاً ورؤية متكاملة من كافة الجوانب المجتمعية والسلطوية الدولتية والأبعاد المحلية والإقليمية والخارجية، خصوصاً مع استمرار انعدام الشعور بالأمان ووجود الخوف وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، بسبب الهيكليات المؤسسية الإقليمية الفاقدة لإرادة الشعوب في الإقليم والتعاون والتصادم الأمني بين الدول والمشاريع التمددية، إضافة لحالات فرض الاندماج القسري والتجانس الإجباري والتداعيات الناجمة عنهما والإبادة الجماعية والممارسة في القرن الحادي والعشرين بحق التنوع المجتمعي وشعوب المنطقة الأصيلة كالشعبين الكردي والفلسطيني من قبل دول وسلطات الاحتلال التركية والإسرئيلية، وتواطؤ ما يسمى المجتمع الدولي أو الأصح منظومة الهيمنة والنهب العالمية الرأسمالية الغربية والشرقية على السواء، ومع توابعهم وهياكلهم ومجمعاتهم وأحلافهم الأمنية والسلطوية والنخبوية في المنطقة مع ممارسات القتل والتهجير وتدمير البنية التحتية وتخريب إمكانيات الحياة وفرض لغة القومية والسلطة الحاكمة وطقوس الدين المستغل من قبل السلطات الحاكمة على حالة التعدد والحديقة المتنوعة الموجودة في الشرق الأوسط.

في بحثنا عن الأمن والسلام، لا بد أن نستعرض مفاهيم الأمن وكذلك المقاربات المختلفة منها والطرق التي تستطيع بها الشعوب والمجتمعات ودول المنطقة الوصول إلى الشعور بالأمان والاستقرار والسلام من دون خوف ورهبة وتبعية وتمثيل، وتمتعها بالحياة الحرة الكريمة وتعزيز قيم الأخوة والتعايش الحر بين مختلف التكوينات والشعوب والدول ومعالجة كافة الإشكاليات والقضايا ضمن مؤسسات ديمقراطية تكاملية مختلفة منها الأمنية والتي تعبر عن أرادة الشعوب ونقاشها الحر وتأمين احتياجاتها الأمنية.

الأمن القومي:

وعلى الرغم من أن الحماية الذاتية أو الأمن الذاتي وتأمين الأمن من الوظائف الثلاثة لأي كائن من الكائنات الحية التي تتضمن تأمين المأكل والمسكن والحماية، إلا أن مصطلحات الأمن القومي والإقليمي بالمفهوم الأكاديمي السلطوي الدولتي قد شاع بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن جذوره تعود إلى القرن السابع عشر، وبخاصة بعد معاهدة وستفاليا عام 1648 التي أسست لولادة الدولة القومية وهي التي تشكلت كأهم أداة لنظام الحداثة الرأسمالية و لقد شكلت حقبة الحرب الباردة وبعدها الإطار والمناخ اللذين تحركت فيهما محاولات صياغة مقاربات نظرية وأطر مؤسساتية وصولاً إلى استخدام تعبير “إستراتيجية الأمن القومي والإقليمي”، ونشأت تبعاً لذلك مؤسسات أكاديمية، من معاهد ومراكز بحث مرتبطة بجامعات ومؤسسات علمية وإعلامية ومجلات متخصصة وإدارات مرتبطة بالقرار السياسي الرسمي. ويشكل مجلس الأمن القومي في أمريكا النموذج الأول لهذه المؤسسات، حيث جسد هذا المجلس التعريف الذي طرحه والتر ليبمان(Walter Lippman) عن الأمن القومي بأنه ( قدرة الدولة على تحقيق أمنها بحيث لا تضطر إلى التضحية بمصالحها المشروعة لتفادي الحرب، والقدرة على حماية تلك المصالح إذا ما اضطرت عن طريق الحرب)(1).

وقد بدأ التشكيل المؤسسي لمصطلح الأمن القومي في نظام الدولة في العالم بصدور قانون الأمن القومي لعام 1947 عن الكونجرس الأمريكي.

وكأي مصطلح أو مفهوم، فإن مفهوم الأمن القومي والإقليمي لا يمكن التوصل إلى تحديد دقيق له خارج نطاق الزمكان الذي يتحرك من خلاله، إضافة لرغبات القوى المتحكمة بالجامعات والبحث العلمي وسياق الاصطلاحي الموجه في دول العالم، وهو يخضع دائماً للتعديل والتطوير والتغير انسجاماً مع المتغيرات والعوامل التي تؤثر في بروزه إلى مسرح التداول والتأثير.

وهكذا أصبح الأمن وبتسميته القومية فرعاً جديداً في العلوم السياسية، حيث تصدر المشهد وامتلك ثقافة وتوفرت له المادة والهدف العلمي المعلن (تحقيق الأمن) وإمكانية الخضوع لمناهج بحث علمية، بالإضافة إلى علاقاته بعدة علوم، وظواهريته المجمعة والمتعددة الجوانب والأبعاد والتي تربط في دراستها بين علوم الاجتماع والسياسية والاقتصاد والعلاقات الدولية ونظم الحكم و تركيبة المجتمعات والشعوب والعلاقة بينهم وبين السلطات وغيرها.

نعلم أن الأمن هو نقيض الخوف وتتفق معظم الدراسات والأدبيات التي قامت بتعريف مفهوم الأمن على أن المفهوم يشير عموماً إلى تحقيق حالة من انعدام الشعور بالخوف، وإحلال شعور الأمان محله بأبعاده النفسية والجسدية.

وقد قدم أرنولد ولفرز (Arnold Wolferes)مثل هذا التعريف عندما قال: يقيس الأمن بمعناه الموضوعي مدى غياب التهديدات الموجهة للقيم المكتسبة، ويشير بمعناه الذاتي إلى غياب الخوف من أن تتعرض تلك القيم إلى هجوم.(2)

يوضح هذا التعريف أنه على الرغم من أن الأمن مرتبط مباشرة بالقيم والقيم مرتبطة بالمجتمع ونسجه الأخلاقية والسياسية، ولكنه ليس قيمة في حد ذاته، وإنما موقف يسمح لدولة كانت أومجتمع أو لجماعة ما بالحفاظ على قيمهم، وبالتالي فإن الأفعال التي تجعل شعب أو أمة ما أكثر أمناً ولكنها تحط من قيمها لا نفع لها ولن تكون آمنة أو مستقرة، وهذا يجعلنا نتحدث عن التوازن بين الديمقراطية والحرية والأمن فالواجب ترابطهم وتكاملهم لتحقيق الاستقرار في الحياة البشرية والطبيعية، ولايمكن أن يتم نقاش الأمن من دون أخذ موضوع الديمقراطية والحرية بعين الاعتبار والأهمية.

ومن الصعب قياس الأمن بأي طريقة موضوعية، ولذلك فإن الأمن يصبح تقييماً مبنياً على مفاهيم لا تتعلق فقط بالقوة والضعف، وإنما أيضاً بالقدرات والنوايا الخاصة بالتهديدات المدركة لقيم الجماعة والمجتمع وعمل أنسجته الأخلاقية والسياسة. فمجتمع تم تعبئته بالفاشية والعنصرية وقتل المخالف لا يمكن أن نصنفه بالمجتمع الآمن.

ويقول المفكر والقائد عبالله أوجلان عن نموذجه لحل القضايا وتحقيق الأمن: “أن نموذج الأمة الديمقراطية، يقلل كثيراً من علاقات الاستغلال المطعمة بالعنف، رغم أنه لا يقضي عليها كلياً. ويحقق ذلك بإتاحته الفرصة لمجتمعٍ أكثر حريةً ومساواة. إنه لا يؤدي وظيفته هذه بالاقتصار فقط على استتباب الأمن والسلام والسماح بين صفوفه، بل وبتخطيه أيضاً للمقاربات المشربة بالقمع والاستغلال تجاه الأمم الأخرى خارجياً، وبتحويله المصالح المشتركة إلى تداؤبٍ وتضافر. لدى هيكلة المؤسسات الوطنية والعالمية بناءً على البنية الذهنية والمؤسساتية الأساسية للأمة الديمقراطية، فسوف يدرك أن النتائج التي ستسفر عنها الحداثة الجديدة، أي العصرانية الديمقراطية، ستكون بمثابة النهضة، ليس نظرياً فحسب، بل وعملياً أيضاً. أي أن بديل الحداثة الرأسمالية هو العصرانية الديمقراطية، والأمة الديمقراطية الكامنة في أساسها، والمجتمع الاقتصادي والأيكولوجي والسلمي المنسوج داخل وخارج ثنايا الأمة الديمقراطية”.(3)

ويبين المقكر والقائد أوجلان في موضع أخر أن الاحتياجات الأمنية كانت السبب في العلاقات بين الشعوب العربية والكردية فيقول” كان الكردُ بحاجةٍ إلى حلفاء أشداء للتمكنِ من الحفاظِ على وجودِهم وتطويرِه في وجهِ الغاراتِ الرومانيةِ والبيزنطيةِ الآتيةِ من الغربِ والشمال. وقد رأوا ذلك في القوى العربيةِ–الإسلامية. هذه الحاجةُ الأمنيةُ هي إحدى الدوافعِ الأوليةِ وراء اعتناقِهم السريعِ للإسلامِ بناءً على العلاقاتِ التي عقدوها مع القوى العربية إلى حين وفودِ الأنسابِ التركيةِ إلى المنطقة.(4)

وعليه فالإحتياجات الأمنية للشعوب وعبر التاريخ لعبت دوراً مهماً في تقريب الشعوب من بعضها واقامة تحالفات مصيرية بينهم أمام التهديدات الخارجية في المنعطفات الخطيرة.

أما تريجر وكرننبرج فيعرف الأمن القومي بأنه “ذلك الجزء من سياسة الحكومة الذي يستهدف خلق الظروف المواتية لحماية القيم الحيوية”.(5)  وهنا لو نظرنا لدول الشرق الأوسط وفق هذا التعريف سنقول بكل تأكيد أن هذه الدول ليس فيه أمن قومي، فالقيم الحيوية لم تعد تهم السلطات والدول بقدر اهتمامها بتزيف القيم الأخلاقية وقيم المقاومة والاصرار على الحرية والحق، فيحاولون زرع الاستسلام والخوف.

ويعرف هنري كيسنجرالأمن القومي بأنه يعني “أية تصرفات يسعى المجتمع – عن طريقها – إلى حفظ حقه في البقاء.

وعليه، هنا يمكننا القول أن مقاومة الإبادة الجماعية كما في فلسطين وكردستان والحفاظ على الوجود هو العمل المشروع والمطلوب لتحقيق الأمن القومي أو الأمن المطلوب للمجتمعين الفلسطيني والكردستاني، لكون الشعبين يتصرفات للحفاظ على وجودهم التاريخي على أرضهم التي تعتبر من أهم القيم وأقدسها.

أما روبرت ماكنمارا (Robert McNamara)فيرى أن “الأمن هو التنمية، وبدون تنمية لا يمكن أن يوجد أمن، والدول التي لا تنمو في الواقع، لا يمكن ببساطة أن تظل آمنة”.(6)

ونحن نعتقد أن التنمية وبالتالي الرفاه في أي بلد ومجتمع في بلدان الشرق الأوسط لا يمكن أن تتحقق إلا بالإدارة الجيدة للموارد وتنمية القدرات البشرية وتطبيق مفهوم اللامركزية وبناء الكوادر العلمية والتقنية المطلوبة في كافة المجالات وتفعيل كافة طاقات أبناء وبنات المجتمعات والشعوب في المؤسسات الديمقراطية اللازمة التي تتعدى المؤسسات الشكلية والديمقراطيات التمثيلية المخادعة، إضافة إلى التوزيع العادل للثروات والعمل لتحقيق التنمية المستدامة وفي مقدمتها أن تكون المرأة حاضرة وبقوة في الحقل الاقتصادي والتنموي أي في الدور الأساسي لتحقيق الأمن.

الأمن الإقليمي

يعتبر الكثيرون أن باري بوزان(Barry Buzan) هو أول من طرح مفهوم الأمن الإقليمي(REGIONAL SECURITY) في كتابه المشهور(People, States, and Fear: The National Security Problem) للتعبير عن علاقات الاعتماد المتبادل بين عدد من الدول ضمن منطقة جغرافية معينة في شكل فعل ورد فعل، أنتجت في نهاية المطاف مجموعة من الديناميكيات الأمنية.

يعرف باري بوزان الأمن الإقليمي على انه: “مجموعة من الدول ترتبط فيه اهتماماتها الأمنية الأساسية مع بعضها البعض بدرجة وثيقة، بحيث أن أوضاعها الأمنية الوطنية لا يمكن النظر إليها واقعيا بمعزل عن بعضها البعض.

أما الدكتور حامد ربيع فيعرف الأمن الإقليمي بأنه مجموعة من الدول تنتمي إلى إقليم واحد تسعى من خلال وضع تعاون عسكري وتنظيمي لدول تلك الاقليم الى منع أي قوة أجنبية أو خارجية في ذلك الإقليم وجوهر تلك السياسة هو التبعية الإقليمية من جانب والتصدي للقوى الدخيلة على الإقليم من جانب آخر وحماية الوضع القائم من جانب ثالث.  والصعوبة هنا أن منظومة الهيمنة العالمية أو نظام الحداثة العالمية لا تسمح بنشوء إطر تعاون أمني دولتي أو شعبي ومجتمعي خارج إرادتهم أو يمكن أن يهدد في المستقبل مصالحهم.(7)

فيما الأستاذ مدحت أيوب يعرف الأمن الإقليمي على أنه “: اتخاذ خطوات متدرجة تهدف إلى تنسيق السياسات الدفاعية بين أكثر من طرف، وصولا إلى تبني سياسة دفاعية موحدة تقوم على تقدير موحد لمصادر التهديد وسبل مواجهتها”(8)

ولكن هل يمكن أن يتواجد في الدول القومية والدينية في الشرق الأوسط وغيرها تقدير موحد لمصادر التهديد ربما يكون هناك اتفاق في الحفاظ على السلطة ولكن لكل دولة كما نرى تقدير مختلف عن الأخرى، وهذه يبين صعوبة الموقف إذا كانت الأولويات قادمة من من هم في السلطة والمراكز البحثية التابعة لهم فقط، فمثلاً هل يمكن أن تتوحد مفهوم ورؤية الأمن ونوعية التهديدات بين تركيا وإيران والدول والشعوب العربية والكردية؟ بالطبع لا، طالما ليس هناك احترام لإرادة الأخر المتواجد في نفس الإقليم سواء كان شعباً أو جماعة أو دولة.

كما طرح الدكتور سليمان عبد الله الحربي مفهوم للأمن الإقليمي حيث يعمل الأمن الإقليمي على: “تأمين مجموعة من الدول داخليا ودفع التهديد الخارجي عنها بما يكفل لها الأمن إذا ما توافقت مصالح وغايات وأهداف هذه المجموعة أو تماثلت التحديات التي تواجهها، وذلك عبر صياغة تدابير محددة بين مجموعة من الدول ضمن نطاق إقليمي واحد ، حيث لا يرتبط برغبة بعض الأطراف فحسب، وإنما بتوافق إرادات تنطلق من مصالح ذاتية لكل دولة ومن مصالح مشتركة بين مجموع دول النظام”.(9)

ولكن كيف سيتم التأمين الأمني الداخلي لأي بلد، اذا لم تكن ساحة الحرية والديمقراطية متوفرة للشعوب والتكوينات الاجتماعية، فكيف يمكن أن تتحقق ذلك في دول مركزية تعمل ليل نهار على إبادة الألوان القومية والدينية والمذهبية وكافة الخصوصيات المتعددة في داخلها، أو أنها لاترضى إلى أن تكون السلطة والارادة مركزة في يد فئة ونخبة ضيقة لا تمثل مصالح كافة الشعوب الموجودة ومكوناتها المختلفة الأصيلة. فالأمن الداخلي قضية متعددة الجوانب والديمقراطية أحد جوانبه المهمة والتي لا بد منها على المدى الطويل.

أما الأستاذ وليام طومسون(Thomson williams) فقد قدم تعريفاً للأمن الإقليمي من خلال التركيز على ثلاثة عناصر(10) :

التقارب الجغرافي وانتظام التفاعلات بين تكوينات هذا الكيان.

الاعتراف الداخلي والخارجي لمجموعة من الدول على أنها أعضاء في فضاء محدد.

حجم هذا الكيان وتتحكم فيه القدرات التي تراكمها الوحدات المعنية.

وعليه،  فإن الأمن الإقليمي وفق المنطق الأكاديمي الذي تموله الدولة ويعمل فيه أجهزتها، يعمل على تحقيق أمن مجموعة من دول من خلال إقامة بنى ترمي لغرس الثقة بين أطراف النظام الإقليمي، التي تدخل في ترتيبات أمنية إقليمية بإرادتها عندما تتأكد أن أهدافها ستتحقق من خلال هذا التعاون الإقليمي.

ولكن من المفيد أن نشير إلى أهمية أن لا يكون الأمن الإقليمي فقط محصوراً بمنطق ورؤية الدول القومية والسلطات وأدواتها الأكاديمية ورعاتهم الدوليين بعيداً عن المجتمعات والشعوب و تكامل الثقافات ومفهوم الحرية غاية الإنسان والوجود، ورغم أن ماذكرناه في الأعلى يناقش الأمن الإقليمي في إطار الدول ومصالحها، مع العلم أنه في بعض الحالات لا تتفق أمن الدولة والسلطة مع أمن الشعوب والمجتمعات، وقضية الأمن الإقليمي لا يمكن حصره في ساحة ضيقة وهي لها علاقة وترابط بالثقافة والديمقراطية والحرية والوعي، فلا يمكن أن تتحقق الأمن الإقليمي في منطقة أو إقليم يغيب فيه الحرية والديمقراطية والتكامل الثقافي والوعي الأمني الذاتي، وإن تحقق فهو مؤقت ومرحلي معرض للإنهيار في كل لحظة.

كما يعتبر الأمن الإقليمي من بين المفاهيم التي تمحورت على التغيرات التي عرفها النظام الدولي مع نهاية الحرب الباردة، ومع عصر الانترنت وفصول الحرب العالمية الثالثة التي تجري فصولها في أوكرانيا وكردستان وفلسطين والبحر الأحمر وأفريقيا والصين وغيرهم، فاتسع ليشمل إلى جانب أبعاده الصلبة العسكرية المتضمنة في المفهوم التقليدي أبعاداً و جوانب كثيرة ومعقدة، حيث انه لم يعد مقتصرا علي التهديد المشترك، بل إلى إقامة ترتيبات و هياكل جديدة ومؤسسات مختلفة، لتتنوع مواضيعه وآليات تحقيقه ومجالاته وأدواته، فالأمن الإقليمي يسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف المشتركة، إذ يعمل على الدفاع على الوحدات المشكلة للإقليم عن طريق تنمية الموارد لتحقيق التكامل بشتى مستوياته بين وحدات النظام الإقليمي وشعوبه المختلفة ومكوناته المتعددة، ولعل الأمن السيبراني من المواضيع الملفتة للاهتمام والدراسة في البعد الإقليمي الذي يصعب التقيد والتحكم به ومنع التسريبات.

يتخذ التعاون الأمني الإقليمي على مستوى الدول أشكالاً وصور متعددة من الترتيبات الأمنية وبعض الباحثيين يسمونها الهندسة الأمنية الإقليمية التي تجسد البناء الأمني الذي يقوم على مأسسة أو انشاء بنية أمنية شاملة لإقليم ما، من خلال تحقيق بناء أمني توافقي موحد قادر على مواجهة التهديدات و الاضطرابات الداخلية والخارجية. ولكن نتيجة ضعف الارادة الإقليمية أو تنافس المشاريع الإقليمية يصعب الاتفاق على الأبعاد الأمنية للنظام الإقليمي، وخاصة في الشرق الأوسط، فلكل دولة رؤية ومصلحة أمنية تصطدم بالدول المحيطة أو حتى أنها تصطدم بالمجتمع والشعب الذي من المفروض أن تقوم الدولة بحمايته، فكيف ستكون تركيا أو إيران مثلاً محقق لأمن الشعب الكردي أو العربي وهم يحاولون ليل نهار أبادة هذه الشعوب وممارسة التمدد والتوسع والاحتلال على حساب الشعبين الكردي والعربي.

وحسب جيفري كيمب(Geoffry kemp )هذه الترتيبات هي صيغ مجمعة تختلف في أشكالها الأمنية (أمن مشترك ، أمن جماعي، أمن تعاوني أو مزيج من هذه الصيغ أطرافها القوى الإقليمية أو بعضها قوى إقليمية مع قوى خارجة ) وأطرها رسمية وغير رسمية تبعا لتوافق دول الإقليم والقوى الفاعلة فيه والقوى العالمية الراغبة في ترتيب المشهد الأمني في الإقليم أو المنطقة، كما هي صيغ التوافقات في دول الشرق الأوسط وبين قواها مع المحيط والخارج.(11)

ربما أضاف جيفري إلى المفاهيم السابقة بإضافة القوى الفاعلة من غير الدول ولكنه عندما أعطى مثال التوافق بين دول الشرق الأوسط لم يوفق لأننا ومع رصدنا لتفاعلات الدول في الشرق الأوسط ورؤية الشعوب وأحوالهم ندرك أن الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط بعيد لعوامل عديدة منها، غياب الديمقراطية وكثرة التدخلات الخارجية وتصادم المشاريع الإقليمية الساعية للهيمنة والسيطرة والتحكم وعدم وجود ثقافة مؤسساتية أو تشاركية حقيقة.

ومن المفيد الإشارة إلى عصر وعقود التكنولوجيا الرقمية ووسائل التواصل عبر الانترنت وظهور الذكاء الاصطناعي الذي أدخل عوامل إضافية إلى مفاهيم الأمن والدراسات الأمنية وعلم الاجتماع الأمني، ومن الضروري، أن تكون مفاهيم الأمن الإقليمي موسعة بشكل يتضمن تلك العوامل المؤثرة في الإقليم المجتمعي ودول المنطقة والفضاء الافتراضي والأمن السيبراني، ففي الوقت الحالي لا يمكن لأية دولة أو سلطة أو مجتمع أو حتى فرد من ضمان أمنه من دون أن يكون له نوعية موفقة في التعامل مع الزخم الإلكتروني والرقمي الحالي، نظراً  لطبيعة الحياة المتداخلة مع الفضاء الرقمي والافتراضي والمعلوماتي وظهور مهددات متطورة وسريعة لقضايا الأمن.

لقد شكلت نهاية الحرب الباردة وثم ظهور عصر الأنترنت والذكاء الاصطناعي والفضاء الرقمي تحولاً في طبيعة التهديدات حيث لم يعد التهديد يقتصر على التهديد المتعلقة بالوحدة السياسية فقط بل امتد ليشمل تهديدات مغايرة عابرة للحدود ما جعل من التعاون بين مختلف الفواعل والباحثيين ضرورة حتمية لدراسة وفهم وتحقيق الأمن الوطني والأمنيين الإقليمي والدولي.

لقد ظهرت عدة أساليب للتفاعل مع الضرورات الأمنية الإقليمية ومن المفيد الإشارة لبعضها ومنها:

الليبرالية:

تقوم النظرية الليبرالية على مبدأ أساسي لتحقيق الأمن والمتجسد في ضرورة التعاون الدولي حتى يتحقق السلم والأمن، وتعد النظرية الليبرالية أكثر مدارس العلاقات الدولية ميلا للتعاون الدولي بدلا من التنازع، وهي في هذا الميل تؤكد ارتباطها بالأجندات الدولية والعالمية الرأسمالية التي ترغب في استخدام الدول وسلطاتهم إلى حد كبير.

وقد مثلت الليبرالية نسقاً فكرياً متعدد التيارات عبر عنه ستيفن والت بعائلة الليبراليات، وتعد المقاربة المؤسساتية النخبوية من أهم المقاربات التي قدمها الفكر الليبرالي بغيت فهم وتعزيز الأمن والسلم الدوليين.

يعتبر جوزيف ناي(Nye Joseph) وروبرت كوهين(Robert Cohen) من أصحاب الاتجاه المؤسساتي والذي يؤكد على دور المؤسسات الدولية والإقليمية في تحقق الأمن، لأن بوسعها توفير المعلومات وخفض التكاليف وجعل الالتزامات أكثر موثوقية وإقامة نقاط تركيز من أجل التنسيق.(12)

كما تعمل المؤسسات الاقليمية على تعزيز الأمن الداخلي عبر ما أصبحت تملكه من صلاحيات وعناصر تسمح لها بضبط بعض الجوانب في المسائل الداخلية، فالليبرالية المؤسساتية تقوم على افتراض مؤداه أن انتشار وتزايد عدد المنظمات وزيادة وتعقد وتيرة شبكة الاعتماد المتبادل سوف يفضي إلى سلوك سلمي وتعاوني بين الدول والوحدات.

ولكن المهم في اعتقادنا، أن لا تكون المؤسسات الإقليمية فقط لخدمة مصالح وأمن السلطات والدول القومية ورعاتهم من الهيمنة العالمية ومنظومة الحداثة الرأسمالية، كما نشاهدها في كثير من المنظمات والمؤسسات الإقليمية والدولية المشكلة أساساً لتحقيق الأمن والسلم، ولكنها تتغافل أأأوو الأصح أنها تتواطئ مع بعض الدول والسلطات التي تخدم المشاريع والسياسات للدول المركزية في النظام الدولي والإقليمي، كما هي مقاربة ما يسمى المجتمع الدولي من ممارسات تركيا وإبادتها الجماعية للشعب الكردي في تركيا وسوريا والعراق أو ماتفعله إسرائيل مع الشعب الفلسطيني.

ويجادل بعض الليبراليين بالقول أن الليبرالية تعمد الى تعريف الأمن من منطلقات أوسع مؤكدة عن الموارد والتوزيع، متحدثين عن فاعلين من غير الدولة، ليصبح الأمن ليس فقط حماية أمن الدولة ضد تهديدات الدول الأخرى، وإنما من تهديدات فاعلين غير دوليين، فقوام التصور الليبرالي للأمن موسع بمعني ما فوق الدولة أكثر ما دون الدولة ليشمل العوامل المؤسساتية، الاقتصادية والديمقراطية وهي أبعاد أكثر تأثيرا من العامل العسكري في إقامة السلام، باعتبار أن السياسات الدنيا هي التي تحدد أجندة الأمن وتجعل التعاون بين الدول أمرا لا مفر منه .

يؤكد تيموثي دن (Timothy Dunn) أن التعاون المؤسساتي بين الدول يفتح المجال لمزيد من فرص تحقيق الأمن والاستقرار وهو ما يقلص من المنافسة الأمنية التقليدية بين الدول. فالمؤسسات الاقليمية والدولية يمكن أن تساعد في التغلب على النزعة الأنانية للدول عن طريق تشجيعها على ترك المصالح الآنية لصالح فوائد أكبر للتعاون الدائم، وهذا لا يعني أن هذه المؤسسات تمنع حدوث الحروب، لكن بوسعها تخفيف مخاوف الغش وتلطيف المخاوف التي تنشأ إثر المكاسب غير المتكافئة الناجمة عن التعاون.(13)

ربما تحاول الليبرالية الدخول للمستويات الداخلية والخارجية ولكن من الصحيح القول أن بوصلتها وأخذتها بالتنوع في المجال الأمني هو لأجل امتلاك قوة أكبر للمنظومة الدولية وليس في حل الإشكاليات الأساسية والتقرب والمقاربة الحقيقة من أمن الشعوب والمجتمعات، إضافة إلى اعتمادها على الفردانية الأمنية المختصة والمؤسسات التي تتصرف بالذهنية والمنطق الدولتي. وهذه من سلبياتها التي لم تستطيع أن تتجاوزها الليبرالية إلى الآن. رغم أنها تكون مفيدة في المراحل المؤقتة وليس الطويلة.

نظرية مجمع الأمن الإقليمي Régional Security Complex Theory) RSCT):

بعد سيطرة المقاربة الليبرالية والمعيارية ظهرت نظريات أكثر ارتباطا بالفرد كوحدة تحليل طورت تصورات معرفية منها مفهوم الأمن الإقليمي والتحليل على المستوى الإقليمي، فبسبب استفحال التهديدات الأمنية الجديدة وتعددها وعجز الدولة عن صدها منفردة، و لسرعة انتشارها أصبح الأمن الإقليمي حتمية ومطلب للتحدي ومواجهة هذه التهديدات، حيث ارتبط الأمن الإقليمي بتوجهات فكرية عديدة في أدبيات العلاقات الدولية أبرزها المدرسة الإقليمية التي نشأت لمواجهة فكرة العالمية، حيث دعا أنصار الإقليمية إلى بناء تجمعات تكون بمثابة الوسيلة الأكثر فعالية للحفاظ على الأمن والسلم الدولي، فقد عرفت الدراسات الإقليمية وما تتضمنه من تحليل للنظم الإقليمية أوج تطورها مع ظهور الدراسات الرائدة للأستاذين (لويس كانتوري) و (ستيفن شبيغل) المعنونة ب (السياسة الدولية في الإقليم ) (International policy in regions)، والتي أكدت على ضرورة الاهتمام أكثر بتحليل العلاقات الدولية الإقليمية، لأنها كانت تدرس من قبل ضمن نطاق (دراسات المناطق) (Area stadies)، ووفقا للتحولات الدولية بعد الحرب الباردة والتي أثرت على مفهوم الأمن لتكون بذلك زيادة التركيز على الدراسات والتحليلات الإقليمية حيث ظهرت العديد من الدراسات منها نظرية مجمع الأمن الإقليمي.

اعتبرت دراسة مجتمعات الأمن ” communities Security” لكارل  دوتش (Karl Deutsch) المتمحورة أساسا حول فكرتي اقليمية الأمن و الاعتماد الأمني المتبادل الركيزة الفعلية التي اعتمدها بوزان وويفر في بلورته المفهوم مجمع الأمن الإقليمي في كتابهم “الشعب الدول ، الخوف : مشكلة الأمن القومي في العلاقات الدولية

(People, States, and Fear: The National Security Problem) ، ليطوره فيما بعد أول ويفر في كتابهم المشترك : ” الأقاليم و القوى ، بنية الأمن الدولي إلى نظرية مجمع الأمن الإقليمي سنة 2003 و التي تبنتها مدرسة كوبنهاغن و أصبحت جزءا من المقاربة المنهجية الجماعية فيها.(10)

تقوم نظرية مجمع الأمن الإقليمي على فكرة رئيسية تتمحور حول أن المستوى الإقليمي هو جوهر ومركز التحليل الأمني في فهم قضايا العلاقات الدولية الأمنية، لكن التأكيد على أهمية هذا المستوى وجوهرتيه التحليلية لا يعني أنه مفصول عن مستويات أخرى ثانوية مثل المستوى الدولي والمحلي، إلا انها تعتبر المستوى الإقليمي وحدة تحليل رئيسية تنطلق من خلالها القضايا الأمنية ، فأغلبية الدول تحدد علاقاتها الأمنية من منطلقاتها الإقليمية، حيث يسيطر الإقليم على الأمن مع عدم إلغاء الدور الحاسم للأطراف الخارجية ومختلف القوى المؤثرة في المجمع الأمني.(14)

يعرف باري بوزان مجمع الأمن الإقليمي على أنه : “مجموعة من الدول ترتبط اهتماماتها ومخاوفها الأمنية الأساسية مع بعضها البعض بشكل وثيق الى درجة أن أوضاعها الأمنية الوطنية لا يمكن بحثها واقعيا بمعزل عن بعضها البعض.

يؤكد باري بوزان وأول ويفر في نظريتهم على الغاء التركيز على الجانب السياسي / العسكري ومركزية الدولة، حيث أن خصائص الدولة حسب الطرح الواقعي لم تعد نفسها، فالتباين في القوة، الموقع الجغرافي و القدرات الطبيعية والبشرية تتدخل كثيراً في تحديد ثقل الدولة و تأثيرها في العلاقات الأمنية الإقليمية ومن ثم انتاج ديناميكيات أمنية مختلفة ، إضافة إلى ذلك وسع بوزان مفهوم مجمع الامن ليشمل وجود فواعل جديدة وقطاعات أمنية متعددة ، ليشير مجمع الأمن إلى مجموعة الوحدات التي تكون بينها العمليات الكبرى ” الأمننة securitization أو اللأمننة ” desecuritization أو كلاهما جد مترابط بحيث لا يمكن تحليل مشكلاتها الأمنية بصورة منفردة” .

تستند نظرية مجمع الأمن الإقليمي إلى عدد من المرتكزات:

تعتبر مجمعات الأمن الإقليمية المكون الرئيسي للأمن الدولي

يعد العامل الجغرافي أحد أهم العوامل المشكلة للمجمع الأمني.

تنتقل التهديدات بصورة أسهل وأسرع على المستوى الإقليمي ، ويعتبر وولت WALT أن العامل الجغرافي عامل فعال في الأمن .

ترتفع درجات الاعتماد الأمني المتبادل بين أطراف المنطقة الإقليمية ، وهذا بحكم العوامل التاريخية والثقافية والجغرافية.

لا يمكن جعل فكرة مجمع الأمن عالمية وهذا بسب أن المجمعات تكون أكثر عرضة للاختراق.

تكمن أهمية نظرية المجمع الأمني في أنها تتعامل مع التهديدات الأمنية بشكل دقيق في منطقة محددة التي تسهل الإحاطة بجميع متغيرات الظاهرة الأمنية في محيطها الإقليمي وهو ما يجعل التحليل الإقليمي يأخذ في الاعتبار الاختلافات المنطقية ما يتيح لباحثي الدراسات الأمنية القيام بعملية المقارنة الأمنية بين الأقاليم. ويعتبر كل الكثير من الباحثيين أن عالم ما بعد الحرب الباردة وظهور الأنترنت والفضاء الرقمي أعطى أهمية أكثر للمستوى الإقليمي والعالمي لتحليل وفهم أشكال النزاع والتعاون في مختلف مناطق العالم.

تتحدد علاقات مجمعات الأمن الإقليمية وفقا لمجموعة من المتغيرات وهي: 1- العداوة أو الصداقة، 2- التخومية، 3- الاعتماد الأمني المتبادل، 4- مبدأ القوة.

إن نظرية مجمع الأمن الإقليمي تحاول شرح كيف يقدم المستوى الإقليمي للتحليل أفضل تفسير للظواهر الأمنية، ويقول بوزان واول ويفر أن المجمع الأمني هو الذي يشير إلى الوضع الذي تكون فيه القضايا الأمنية للدول متصلة ببعضها البعض مستخدمة في تحليلها أنماط الصداقة والعداوة كمتغيرات مستقلة تحدد طبيعة العلاقات الأمنية فالبنسبة لبوزان وويفر الأمن هو ما تصنعه الدول وفقاً لأنماط الصداقة والعداوة ، كما أن الأمن الإقليمي يشتق من التفاعل بين البنية الفوضوية للنظام الإقليمي ونتائج ميزان القوى من جهة وبفعل ضغوط القرب الجغرافي من جهة اخرى ما ينتج لنا جملة من الديناميكيات الأمنية التي تتميز بخاصية اختراق حدود كل دولة ليتم احتوائها عبر ترسيخ التعاون الأمني الإقليمي في اطار الاعتماد الأمني المتبادل عوضاً عن الاعتماد على الذات في تحقيق الأمن عبر المستوى المؤسساتي. ولكننا نقول أنه من دون الأمن الذاتي لايمكن أن نبحث في المجمعات الأمنية.

الأمة الديمقراطية والأمن الذاتي

ينظر هنا للأمن الإقليمي من الأبعاد التكاملية والثقافية والذهنية ومن خلال ركائزه الثلاثية بناء المجتمع الديمقراطي وحرية المرأة والمجتمع البيئي، وعبر تحقيق اتحاد الشعوب الديمقراطية أو الكونفدرالية الديمقراطية لشعوب الشرق الأوسط ولأي إقليم أو منطقة، وحل القضايا الوطنية عبر الحلول الديمقراطية والتوزيع العادل للثروات وتغير الثقافية وتحقيق الثورة الذهنية للإنسان الشرق الأوسطي أو في أي إقليم، وأن يكون الاعتراف والاعتماد المتبادل قائماً على اساس مصالح الشعوب والمجتمعات بدلاً من الركون لمصالح السلطات وبعض النخب في الأمن الوطني المجتمعي والإقليمي وأن لا تكون الأبعاد الثقافية والذهنية بعيدة عن جوهر الأمن لأنه مرتبط بشخصية الإنسان وشخصية المجتمعات التي تشعر بالأمان والاستقرار مع تمتعها بالحرية والديمقراطية والعدالة. وأن تكون الحماية والأمن الذاتي مفهوم أخلاقي وسياسي وأمني مجتمعي في التعامل مع أدوات العنف والشدة والمقاومة المتنوعة، ليكون في خدمة المجتمعات والشعوب وحمايتهم بدلاً أن تحتكر فئة معينة أو سلطة دولتية الأدوات وعناصر القوة. ونعتقد أن الأمن الذاتي هو حق لكل مجتمع أو شعب وبل أن أي مجتمع وشعب يفقد أمنه الذاتي يكون معرض للاستغلال والاحتلال، وفي الوقت نفس فإن الأمن وفق مفهوم الأمة الديمقراطية ومقاربتها هو تكاملي وتعاوني بين الشعوب والمجتمعات المختلفة وهو قضية استراتيجية وليست قضية موضعية أو مرحلية أومؤقتة.

ويؤكد المفكر والقائد أوجلان أن السلام والاستقرار غير ممكن من دون أن يستند إلى الحلول الديمقراطية الدستورية، أما الحالات الأخرى فيمكن اعتبارها هدن مؤقتة، سرعان ماتسود الحرب والفوضى. فالأمن هنا متلازم مع السلام والديمقراطية والحرية وريادة المرأة ودور المجتمع الأساسي فيه.

تنوع التهديدات الأمنية:

إن طبيعية الحرب العالمية الثالثة وتداعياتها والتحولات في النظام الدولي واستمرار حروب الإبادة الجماعية وظهور الفضاء الافتراضي والذكاء الاصطناعي والحرب بالوكالة والمرتزقة، أدى إلى التغيير في طبيعة التهديدات الأمنية واتسعت بشكل يتجاوز الاهتمامات التقليدية القائمة على الصراع بين الدول أو السلطات، حيث ظهرت تهديدات جديدة لمسألة الأمن، تتسم بكونها تتجاوز حدود الدول وحتى الكثير من قيم المجتمعات والشعوب.

التهديدات الأمنية لم تعد مرتبطة فقط بالقوة الصلبة أو الذكية ولا بالفواعل الرسمية حتى أنها مجهولة أحياناً أو عبر وكلاء، الأمر الذي يتوجب مواجهته و التصدي له تحديث آليات أكثر مواءمة لا يمكن أن تتبلور و تؤتي أهدافها في إطار منفرد للدول أو السلطات فقط في أي إقليم كان، وهو ما أدى إلى ظهور مفاهيم أمنية جديدة كالأمن المتكامل، الأمن التعاوني، الأمن المتبادل وغيره، وهي مفاهيم كلها تعزز دور المدخل الإقليمي في ردع التهديدات الأمنية، وهو مازاد من أهمية الدراسات المتعلقة بالأقاليم والتي عرفت بالحلول الإقليمية لمشكلات الأمن إن إمتلك أهل وقوى وشعوب الإقليم الإرادة السياسية والأمنية اللازمة.

التهديدات الأمنية الجديدة تشكل قلقاً هاجساً بالنسبة للدول والشعوب في كل الأقاليم والمناطق، فلم يعد بمقدور الدولة القومية الأحادية أو الوطنية مجازاً لوحدها تحقيق وضمان أمنها وأمن شعوبها بمفردها لعدة متغيرات داخلية وخارجية من بينها الجهود المضنية المطلوبة وتكلفة الأعباء الكبيرة للحفاظ على الأمن، فتعقد المسألة الأمنية واتساع رقعتها الجغرافية ربط أمن الدول والشعوب بدرجة أكبر بأمن واستقرار الجوار، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بشبكة الأمن وتكامله، بمعنى أن الدولة أو المجتمع يتأثر سلباً وإيجاباً بدرجة الاستقرار الأمني في إقليمها، وذلك يرجع إلى أقلمة وعولمة التهديدات الأمنية ، فلم تعد أية بقعة جغرافية أو دولة بمعزل عما يحدث خارج حدودها كما لم يعد بمقدورها حماية كامل حدودها الجغرافية نتيجة لأسباب عديدة، وهو ما يجبرها على إعادة النظر في تصورها الأمني والدخول في مجمعات أمنية إقليمية. حيث أن الدول والشعوب التي تنتمي لنفس المنطقة الإقليمية تتقاسم كثيرا من الاهتمامات الأمنية التي تجبرها على تبني تعاون أمني إقليمي للتعامل مع مختلف الظواهر الأمنية(15)، وموضوع أو مفهوم السيادة القومية والقطرية أو الجزئية هو موضوع نسبي وفق منطقة ورؤية الدول والشعوب، وبالأساس ليس للدول القومية أية نوع من السيادة طالما كانت أدوات ومؤسسات لنظام الهيمنة العالمية وطالما تأخذ شرعيتها من تبعيتها الخارجية وليس من شعوبها ومجتمعاتها.

الخلاصة

إن الإسهامات الفكرية لكل من باري بوزان وأول ويفر في اقتراح قراءة جديدة لمفهوم الأمن من خلال توسيع مستوياته المختلفة مع التركيز على المستوى الإقليمي، أصبح له أهمية كبرى مع توسع دائرة التهديدات الأمنية وطبيعتها العابرة للحدود وصعوبة مواجهتها بصفة منفردة، وهنا أضاف بوزان مفهوم مجمع الأمن الاقليمي

(regional Security complex)، أي يصبح أمن الدولة مرتبطاً ارتباطاً وثيقا بحيزها الجيوسياسي حيث من الصعب فهم الأمن في دولة ومجتمع ما ، بمعزل عن أمن الدول والشعوب المجاورة، وذلك من خلال اقامة منظومة أمنية تعاونية تمثل آلية مهمة الهندسة الأمن الإقليمي.

ومع مقترحات القائد والمفكر عبدالله أوجلان لتحقيق الأمن والاستقرار الاستراتيجي من خلال تحقيق الحرية والديمقراطية لمختلف التكوينات والخصوصيات المجتمعية ببناء النظم الديمقراطية والاتحادية والكونفدرالية للشعوب الديمقراطية، لحل قضايا الشعوب والمجتمعات وتأمين الأمن الذاتي كأهم حلقة في التكامل الأمني المؤسساتي الإقليمي، لم يعد الأمن الإقليمي منصباً على منطق الدولة والسلطة، بل أصبحت الشعوب والمجتمعات تلعب دوراً كبيراً وخاصة المرأة في تحقيق الأمن المحلي والإقليمي، لأن المرأة هي التي تعاني أولاً وأخيراً أكثر من أي فرد في المجتمع عندما تسود حالة عدم الأمن والخراب والخوف فهي التي تتحمل أكثر أعباء المجتمع في السلم والحرب معاً.

إن تطور ظاهرة العولمة و بروز التهديدات المتنوعة وخاصة مع مستويات التطور التقني الكبير، جعل الإقليمية بمثابة طريق ومنهج للدول لتحمي مصالحها الوطنية أو الأصح جعلت الشعوب ترى حقيقة أن أمنها غير ممكن إلا بالتكامل والتعاون مع شعوب المنطقة والإقليم الواحد، من خلال عمل الدول والشعوب على تنظيم أنفسهم إقليمياً بشكل متزايد لتحقيق الأمن الوطني والإقليمي، والوصول لما هو عالمي. ومن الصحيح القول إن تنوع التهديدات وامتدادها أدى إلى تعاظم دور المجمعات والمجتمعات الإقليمية لاعتبارها وسائل وقوى جيدة لتحقيق الأمن الإقليمي.

وكما أن زيادة ارتباطات شعوب و دول الإقليم عبر تفاعلات التكامل والتعاون والعمل المؤسساتي  والكونفدراليات الشعبية بدل من التنازع والصراعات السلطوية والنهبية يزيد من توافق المصالح ووحدة الأولويات وتكامل الأمن الذاتي بين الشعوب والبلدان ما يؤدي لرسوخ البنى الأمنية وثباتها، ما يؤدي إلى إقامة ترتيبات أمنية جمعية داخل النظم الإقليمية الاتحادية، وليس محاولات كل طرف وسلطة في زيادة هيمنتها داخلياً وإقليمياً، كما تفعلها الدول القومية في الشرق الأوسط على حساب الشعوب الأصيلة ومن يعتقد أن الأمن والاقتصاد سيأتي عبر محاربة حركات الحرية والديمقراطية وسجن قادتهم بمؤامرات دولية فهو واهم، كما تفعله تركيا منذ مئة سنة وتريد أن تفعلها مجدداً ضد الشعب الكردي وقوات حريته قوات الكريلا بالضغط لمشاركة بعض المرتزقة حكومات كانت أو أحزاب وشخصيات فالاعتداءات والإجرام بحق الشعوب لن تزيدها إلا مقاومة وإصراراً على تحقيق أمنها وكرامتها وحريتها.

مراجع يمكن الرجوع لها:

(1)عبد الله بلقزيز، الأمن القومي العربي (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب)، 1989.

(2) أرنولد ولفرز، الخلاف والتعاون، مقالات عن السياسة الدولية (بالتيمور: مطبعة جامعة جون هوبكنز، 1962)،     الصفحة(150).

(3)عبدالله أوجلان المجلد الخامس، ترجمة بشرى علي، لبنان، مطبعة داتا سكرين، الصفحة(45)

(4) المرجع السابق، الصفحة (92)

(5) حامد ربيع :نظرية الأمن القومي والتطور المعاصر للتعامل الدولي في منطقة الشرق األوسط ،( مصر:دار الموقف العريب1984)،الصفحة(38).

(6) ماكنمارا، جوهر الأمن (نيويورك: هاربر برس، 1966)، الصفحة(149).

(7) مدحت أيوب:الأمن القومي العربي ،( مصر :مركز البحوث العربية 2003)،الصفحة(52).

(8) سليمان عبد الله الحربي، “مفهوم الأمن: مستوياته، صيغه، تهديداته”، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد،19(2008) الصفحة (22).

(9) المرجع نفسه، الصغحة (25)

(10) المرجع نفسه، الصغحة (26)

(11) محمد عديلة طاهر، الجدل الليبرالي، مجلة دفاتر السياسة والقانون العدد15 الصفحة (251)

(12) صليحة كبابي ، الدراسات الأمنية بين الاتجاهين التقليدي والحديث، مجلة العلوم الانسانية العدد 38 2012 الصفحة (175)

(13)مروة خليل محمد مصطفى، القدرة التفسيرية للنظرية الليبرالية:دراسة تقويمية 2012

(14) أحمد المسلماني: الهندسة السياسية،(القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2018) الصفحة (35).

(15) كليبلز أليسون، واندرو كوتي، التعاون الأمني الإقليمي في أوائل القرن 21 في التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي(لبنان: مركز الوحدة العربية 2006) الصفحة (175).

زر الذهاب إلى الأعلى