كنتُ في أوجفت.. مدينة وخيرتْ

أيام الانتخابات الرئاسية المنصرمة، أمضيتُها منسقاً لحملة المرشح/ فخامة الرئيس المنتخب -لاحقاً- محمد ولد الشيخ الغزواني في بلدية أوجفت.. وخلال هذه التجربة، التي لم يَحُلْ قصر أيامها؛ دون ثرائها وأثَرها سأدون هذه السطور، بما عايشتُ وما رأيتُ على الصعيد السياسي والاجتماعي.
 
رحلة بين السياسة والتاريخ
أوجفت مدينة تاريخية، تقع في ولاية آدرار؛ شمال موريتانيا. ويعود تاريخها إلى قرون قديمة، فقد كانت واحدة من المحطات الهامة في طرق القوافل التي تمر بالصحراء الكبرى.
وكانت المدينة مركزاً تجاريّاً وثقافيّاً، تمر به القوافل السيّارة بين شمال إفريقيا وجنوبها.

تتميز أوجفت بمعمارها التقليدي الذي يعكس الطراز المعماري الصحراوي، وتشمل المدينة العديد من المباني القديمة والقصور التقليدية. وقد كانت مركزاً مُشعّاً بالعلم والثقافة، حيث احتضنت العديد من العلماء والأدباء، وتوجد بها مكتبات تحتوي على مخطوطات نادرة.

ولأني أحد الموريتانيين المنتمين إلى المدن القديمة؛ فأنا ولاتيّ الانتماء والنشأة، فقد ألِفت أوجفت بسرعة، وانصهرت بوجداني في تضاريسها، وسمو أخلاق ناسها، وهدوء جوها؛ رغم صخب السياسة، واختلاف وجهات النظر.

لكنّ تاريخ أوجفت المفعم بالتفاعل بين الثقافات المختلفة التي مرت بها، كان سرّاً من الأسرار التي ساهمت في نجاح مهمتي التنسيقية، فالمدينة مبنية على روح التعاطي الثقافي والحضاري بين الناس، وكانت وما تزال قادرة على الحفاظ على هذه المبادئ، التي يجددها تراثها وهويتها على مر العصور.

من الصعب تحديد تاريخ تأسيس مدينة أوجفت بدقة، لكن يُعتقد أن المدينة قد تأسست في العصور الوسطى -القرن الثاني عشر أو الثالث عشر الميلادي تقريباً- إذ كانت المنطقة تشهد تزايداً في النشاط التجاري والثقافي، بحكم مرور القوافل التجارية عبر الصحراء الكبرى، لكنْ مما لا يصعب تحديده أن المدينة مفعمة بروح التراث النقيّ؛ عامرة بألق الحضارة وظلالها الوارفة. ومن الأقدار الجميلة تجربتي في هذه الربوع الجميلة بتضاريسها والغنية بتراثها الملموس حسّاً في العمارة والمخطوطات؛ والملموس معنىً في العادات والتقاليد العربية الإسلامية، التي حافظ الإنسان الأوجفتي على نسخته النقية منها، وطبعها بذوقه الراسخ، وقدّمها بأسلوبه ورؤيته.

تتمتع أوجفت بجغرافيا وطبيعة قل لهما مثيل في المنطقة.

وحسب التجربة، يمكنني القول بثقة بأن الأرض مريحة وساحرة، وأن المناخ -رغم فترة الحر- مناخٌ طبيعيٌّ وصحيّ.. ومن محاسن الصدف والحظ؛ أن الفترة كانت فترة “القيطنة” التي تشعرك بالفعل؛ أنك في نزهة ونقاهة، بين وديان أوجفت الخضراء؛ ولطف ناسها الكرماء، حتى أسماء الأماكن تحيل إلى ذلك، فمعدن الناس معدن نفيس (بلدية المعدن)؛ وهو جدير بالإشادة والمدح (بلدية المداح).
 
أوجفت تستحق عناية ولفتة

عليّ وعلينا جميعا، التنبيه إلى أن هذه المدينة التاريخية؛ ذات مقومات حضارية وتراثية ثرية، ويجب إدماجها في هيئة المدن القديمة، وتنظيم النسخة القادمة من مهرجان مدائن التراث فيها، بصفتها خامس مدائن التراث.

من واحات النخيل الجميلة بمناخها الجذاب وثمارها الرطبة؛ تأخذك الرحلة في واحة إنجيشان حيت الأرض الطيبة وساكنوها؛ مرورا بواحة إريجي عبداوة لأسرة أهل الفضل.. ثم واحة إريجي لمام، حتى يصل بك شلال جمال الطبيعة إلى واحة لودي الجميلة؛ حيث العراقة والأصالة؛ موطن أفاضل ساكنة آدرار، ثم يحيلك المشوار إلى واحة تونكاد العريقة، المحفوفة بحفاوة الاستقبال وكرم الضيافة، اللذين يتقنهما الساكنة الكرام.

في هذه الربوع، تَستبيكَ الطبيعة بسحرها، وتمتزج أمامك الجغرافيا بالتاريخ؛ حين تصل إلى واحة تمنيت حتى واد امحيرث، مسقط رأس زعيم المقاومة الشريف البطل سيدي ولد مولاي الزين.  يمكنك أن تواصل رحلتك بين واحات ووديان أوجفت، مع دوام الاستمتاع والشغف؛ لأن المناظر خلابة، والطبيعة نقية، والمناخ صحيّ.. وكل واد -أو واحة- يكاد يُنسيك الذي سبقه، فالمنافسة على الجمال والتأثير هي طابع الرحلة.

خاتمة الرحلة كانت بواحات المعدن والمداح وانتيركنت، وأدرك أن هناك الكثير من الوديان والواحات الأخرى، لكن المشاغل والمهام في تنسيق الحملة، تتمركز في بلدية أوجفت المركزية.
 
التعاطي السياسي مع ساكنة أوجفت
حاولتُ في بداية هذه الخاطرة التعبير عن الرحلة، دون وضع حدٍّ فاصل، بين جمال الطبيعة وروعة التاريخ وظلال الجغرافيا، وضرورات السياسة..

وبما أنني كنت في هذه الرحلة منسقاً لحملة المرشح/ فخامة الرئيس المنتخب -لاحقاً- محمد بن الشيخ الغزواني؛ فسأتحدث عن بعض الأمور الجوهرية، التي تعترض العمل السياسي، من موقع الرائي المجرِّب، لا السامع المستقبِل..

تجربتي مع منسقية بلدية أوجفت؛ قادتني للتعرف على ساكنة أوجفت العظيمة، وحظيتُ بفرصة التعاطي مع نخبتها وأبنائها المميزين، مع ما يحيطون به الزوار والضيوف من كرم الضيافة وحسن التعامل وصدق النية.

ومهما حاول أيٌّ منا أن يكون موضوعيّاً، وكيّساً لبِقاً، فإن ذلك لن يمنعه من القول بأن السياسة مصالح وأن التوجهات السياسية ليست ثابته، وإنما تتغير حسب المصالح والتفاهمات، وهذه سمة كل عمل سياسي وكل حملة انتخابية.

وما يحصل في أوجفت هو بالضبط ما يحصل في ولاتة (مدينتي)، أو أي مدينة أخرى من مدننا التاريخية أو العصرية. 
والحقيقة أن السياسة في مدينة أوجفت، تشعرك بالأمن والطمأنينة على مستقبلها ومستقبل آدرار عموما.. نعم؛ فسكان أوجفت رغم التجاذبات السياسية، واختلاف التوجهات، يدركون بعمق أن مصلحة البلاد في التصويت لفخامة رئيس الجمهورية، ومنذ وصولنا إلى مدينة أوجفت حتى يوم الاقتراع؛ كنا متأكدين أن كل من قابلناهم كانوا صادقين في توجهاتهم ودعمهم لفخامة رئيس الجمهورية.

ولن أنسى ذلك الوجيه السياسي الذي ربما وصل إلى كل ما يطمح له، ولكنه مقتنع أن فخامة رئيس الجمهورية هو الحل الأمثل، وبذلك يقدم من وقته وماله من أجل إنجاحه.. وقد أتتني سيدة بسيطة متعففة؛ وقالت بكل بساطة وعفوية؛ إن فخامة الرئيس هو ابن المدينة؛ وإن حي “بجامز” في أوجفت، يشهد على واقع المدينة وتاريخها، فهي موطن الزعامة الروحية للغظف في المنطقة، وقالت إنني -بصفتي منسقاً لحملة فخامة رئيس الجمهورية- لست بحاجة لطلبها التصويت له، وأنها لا تريد أية مكافئة على توجهها وقناعتها بالتصويت لفخامته..

وقد تواصل معي عشرات من الشباب الطامح لغد أفضل، ودارت النقاشات حول كيفية تنسيق الجهود حتى تصل عمليات التحسيس جميع أنحاء المقاطعة، وتحدث هؤلاء الشباب بكل حماس وصدق، بعد كل هذا تأكدتُ أن أهل أوجفت سيصوتون وبكثرة لفخامته، وهذا ما حدث يوم الاقتراع.
خلال الفترة التي أمضيت في مدينة أوجفت ووديانها الجميلة، تأكدت أن نسبة نجاح فخامة رئيس الجمهورية 81,56% هي بالفعل نسبة تعكس الواقع الملموس في انتخابات رئاسية شفافة في كل مكاتب التصويت، وبشهادة المعارضين.

لا أستطيع أن أتجاوز دون أن أشكر ساكنة أوجفت على كرم الضيافة التي حظينا بها طوال مقامنا.. ويرجع الفضل في ذلك لساكنة أوجفت عموماً، من فاعلين سياسيين ورجال أعمال، كان شغلهم الشاغل أن تكون ظروف مقامنا جيدة، وأن نقوم بمهمتنا في سياق طبيعيّ شفاف.

وأرجو أن أكون قد وُفقتُ في مهمتي، ولم أدخر جهداً في التعاطي الإيجابيّ مع الجميع، وقد كنت حريصاً طيلة فترة التنسيق على الوقوف على مسافة واحدة من الجميع، والإخلاص لمهمتي، دون أي تقصير أو تحريف أو توانٍ، وقمت بالتعبئة الجادة، والحث المتواصل على العمل وبذل أقصى الجهد للوصول إلى هذه النتيجة المشرفة (81.56%).

وأعتذر مسبقاً، إن كان حصل تقصير مني، دون قصد. وقد كنت دائما أضع نصب عيني؛ في تعاملي مع أهل أوجفت الكرام، المسؤولية الجسيمة، التي كُلفت بها -تنسيق حملة فخامة رئيس الجمهورية- ولو رجع بي الزمن إلى الوراء، فإنني لن أغير أي تصرف قمتُ به، فقد كنتُ منطلقاً من وعيي بدوري وإدراكي لمسؤوليتي.

وأعتقد أنني خرجت من هذه المهمة بإخوة وأصدقاء، كشفت دروب السياسة؛ لكلّ منا عن مدارك الآخر ورؤاه، في جو من التقدير والاحترام والهدوء..
 
تجارب السياسة وظلالها
سأختم بنقطة عامة، استقيتُها من تجاربي في العمل السياسي، فقد لفت نظري منطلق عام لدى كثير من الناس؛ يتمثل في استيعاب المثقف والأكاديمي إذا كان معارضاً فقط، أما أن يكون للمثقف رأي أو دور مع الموالاة، فإن ذلك أمرٌ يثير انتباه الناس، بل قد يؤدي إلى استهدافه وشتمه أحياناً!

والواقع أن توجه كل إنسان مهما كان؛ يحتمل منطلقين؛ إما المصالح العامة، وإما المصالح الخاصة، والمهم أن يجعل الإنسان المبادئ والصالح العام هدفه، ويخلص للمنابر التي يستطيع من خلالها خدمة وطنه وتجسيد دوره ورؤيته في ذلك.

وليست هناك معرة أو خيانة أو نكوص، في الوقوف مع الموالاة -أو في المعارضة- على حدّ سواء؛ ما التزم الإنسان بالأخلاق والمبادئ والقانون والمساهمة في البناء والتنمية.

وبناءً على ذلك فأنا أستاذ جامعي؛ حاصل على التأهيل الجامعي في علوم التسيير، وقررتُ بكل ثقة دعم فخامة رئيس الجمهورية في الاستحقاقات الماضية، وأرى في رؤيته التنموية مصلحة البلد والنهوض به، وأطمح بالفعل للمشاركة في إدارة الشأن العام -ولمَ لا- وقد حصلت على قدر من الكفاءة والخبرة، يمكنني من المشاركة الفعالة في تطوير بلدي، وأنا مستعد لذلك، وتشرفني المساهمة في أي فعل يساهم في بناء البلد ونهضته.

في الختام سأظل مسروراً بهذه التجربة، وسأتزود بها ومنها لما هو قادم إن شاء الله تعالى؛ من محطات وأدوار سياسية.

وفق الله الجميع لكل خير.

زر الذهاب إلى الأعلى