د. مصطفى عيد إبراهيم يكتب.. العقوبات الاقتصادية (بين تصريحات الإدانة وشن الحروب)

تعرف العقوبات الاقتصادية بانها مجموعة الإجراءات الاقتصادية والمالية التي تفرضها دولة أو مجموعة من الدول أو المنظمات الدولية والإقليمية على دولة أو تنظيم ما، جراء قيامه بأعمال عدوانية أو تهديد للسلم العام أو وسيلة ضغط لتقديم تنازلات ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية. وهذه العقوبات تكون مرتبطة بالمعاملات التجارية والمالية التي تقوم بها الدولة أو الجهة المعنية مع العالم الخارجي، بحيث تتضمن هذه العقوبات فرض قيود جمركية أو تقييد التحويلات المالية أو الحواجز التجارية او تجميد استثمارات واحتياطات ووقف منح تفضيلات اقتصادية والحد من نقل التكنولوجيا.

وعرف الانسان عبر تاريخه تطبيق للعقوبات منذ امد طويل.  ففي عام 432 قبل الميلاد تم فرض مجموعة من العقوبات الاقتصادية على مدينة ميجارا من قبل الإمبراطورية الأثينية وقتها. وتعتبر هذه الخطوة أول استخدام للاقتصاد كأداة للسياسة الخارجية، حيث منعت العقوبات ميجارا من التجارة في أي ميناء داخل رابطة ديليان، وعزل المدينة وألحق أضرارًا كبيرة باقتصادها. ثم شهد التاريخ الانساني اشكالا عدة من العقوبات.

وفي العصر الحديث وبعد نشأت عصبة الأمم قبل الحرب العالمية الاولى، فقد قادت عصبة الأمم صياغة عقوبات متعددة الأطراف في أوائل القرن العشرين. وفعلت الأمم المتحدة الشيء نفسه فيما بعد ضد الأنظمة مثل نظام روديسيا الى نظام صدام حسين لبوتين. كما قامت الولايات المتحدة من جانبها بفرض عقوباتها أحادية الجانب بعد الحرب العالمية الثانية.  ووفق احصائيات قاعدة بيانات العقوبات الاقتصادية العالمية فان عدد العقوبات التي تم فرضها من خمسينات القرن الماضي حتى عام 2019 قد وصل لنحو 1045. كانت العقوبات الاقتصادية تستهدف دول ذات اقتصاديات صغيرة او متوسطة مثل كوبا او كوريا الشمالية. وباتت الان تستهدف دول كبرى مثل الصين وروسيا. ومع كبر حجم الاقتصاديات والدول المستهدفة تزداد احتمالية حدوث أضرار جانبية وانتكاسات اقتصادية كبيرة في ظل العولمة وتشابك سلال الامداد الدولية. كما تزداد قدرة الدول المتضررة على الجرأة على الرد على هذه العقوبات. والمؤكد أن النفوذ الاقتصادي المتزايد للولايات المتحدة الامريكية لا يعني أنها بمنأى عن الاثار والاضرار الجانبية، لأنه قد يدفع الجميع الي تقليل اعتمادها على أدوات التمويل والتكنولوجيا الأمريكية، وبذلك يصبح النفوذ الاقتصادي العالمي لأمريكا أضعف  ويصبح تأثير العقوبات أقل فاعلية.

وفي هذا الاطار يذكر الدبلوماسي جيريمي جرينستوك، سفير بريطانيا لدى الأمم المتحدة بين عامي 1998 و2003 في تقرير نٌشر في يوليو 2020، أن السبب الأساسي للعقوبات إنها حل وسط بين الكلمات والعمل العسكري إذا كنت تريد ممارسة الضغط على حكومة ما. واشير في هذا السياق انه حتى تكون العقوبات ذات فائدة، يجب أن تلتزم بها جميع الدول، وعموما فان نجاح فرض العقوبات الاقتصادية على تحقيق الهدف يعتمد على ثلاثة ابعاد : البعد الزمني، ومدى قوة النظام المفروض عليه العقوبات ، واخيرا مدى وجود اختراق في نظام العقوبات من عدمه وهو دائما ما يحدث من خلال وكلاء وسماسرة وسوق سوداء.

على صعيد اخر، أشار معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، إلى أن الصادرات الأمريكية نفسها تقل بفعل العقوبات. وذكر دانيال دريزنر، أستاذ السياسة الدولية بكلية فليتشر للقانون والدبلوماسية ، إن فرض العقوبات على منتج معين، كالنفط، يعطي الفرصة للسوق السوداء كي تزدهر، وبالتالي، لن يكون للعقوبات تأثير على البلد المصدرة للنفط، لأنها ستبيع نفطها لمن يحتاجه على كل حال، وبالتالي هذا النفط لا يفيد دورة الاقتصاد العالمية سواء كان كنفط خام أو سيولة نقدية.

كما يقول ريتشارد هاس والذي تشاركه ميغان اوسوليفان، في كتابه “العسل والنحل” في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، إن العقوبات تسفر بصورة شبه دائمة عن صعوبات اقتصادية، لكن تأثيرها لا يكفي غالباً، أو يعجز عن فرض التغيير السياسي المطلوب في البلد المستهدف. وإضافة لذلك قد تكون العقوبات مكلفة بالنسبة إلى الأبرياء ، بخاصة أكثر الناس فقراً في البلد المستهدف ودوائر الأعمال والمصالح التجارية.  وإضافة إلى ذلك فإن العقوبات تثير عادة نتائج غير مقصودة، مثل تقوية النظم المعادية، وفي ضوء هذه النتائج هناك تسليم متزايد بأن الاعتماد فقط على الأدوات الجزائية مثل العقوبات نادراً ما يمثل استراتيجية فعالة للسياسة الخارجية، وقد كان تزايد الوعي بهذا وراء الدعوى لاستكشاف استراتيجيات للسياسة الخارجية، تتسم بأن الفوارق الدقيقة بينها أكثر، وأنها وإن تضمنت عنصراً محتملاً للعقوبات فإنها لا تعتمد عليه كلية في تحقيق أهداف الولايات المتحدة.

ولقد زاد استخدام العقوبات في التسعينيات. لكن التحول الأكثر دراماتيكية في نهج الولايات المتحدة جاء بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر في عام 2001. وتم اصدار قانون باتريوت الذي تم تمريره لاستهدف خزائن الإرهابيين. وهكذا بدأت حقبة من العقوبات “الذكية” التي سعت إلى عرقلة الإرهابيين وبعض النظم السياسية وغيرهم من خلال تقييد وصولهم إلى الشبكة المالية المملوكة أو المتأثرة بالولايات المتحدة، وهذا التغيير في المسار جعل العقوبات أقوى بكثير مما كانت عليه من قبل.

اما نقطة التحول الاخرى في العقوبات الاقتصادية  فكانت عام 2010 حيث زادت الولايات المتحدة الامريكية من استخدامها “للعقوبات الثانوية” والتي لا تستهدف فقط الأشرار المتصورين بل تهدد أيضًا أي شخص يتعامل معهم بالحرمان المالي. كانت قوتهم أكثر وضوحا في حالة إيران. رأت الشركات الأوروبية فرصة ذهبية هناك بعد الاتفاق النووي عام 2015، لكنها تراجعت بأعداد كبيرة بعد أن أعاد ترامب فرض العقوبات وأضاف عقوبات ثانوية في 2018. ولكنها في ذات الوقت اثرت على الاقتصاد الامريكي، وفي عام 2014 أقر بنك بي إن بي باريبا الفرنسي بالخطأ في معالجة آلاف المعاملات التي تشمل دولًا أدرجتها الولايات المتحدة الامريكية على القائمة السوداء، ودفع غرامة قدرها 8.9 مليار دولار واضطر إلى تعليق عمليات المقاصة بالدولار في نيويورك لمدة عام.. في المقابل تثير العقوبات تدابير مضادة.. فلقد أصدر الاتحاد الأوروبي ما يسمى “قوانين الحظر” بهدف حماية الشركات المحلية ومنعها من الامتثال لعقوبات دولة أخرى. في بريطانيا تم مقاضاة مترو بنك من قبل مجموعة من العملاء الإيرانيين الذين يجادلون بأن إغلاق البنك لحساباتهم تم دون سابق إنذار استناداِ الي قانون الحظر.

وتظهر مثل هذه الإجراءات كيف أصبحت العقوبات أداة محورية للسياسة الخارجية. وتستخدمها أمريكا والدول الكبرى بشكل متزايد كوسيلة لمحاولة تغيير سلوك الدول الأخرى في المواقف التي تكون فيها الدبلوماسية وحدها غير كافية، في حين يكون التدخل العسكري أيضاِ محفوف بالمخاطر أو شديد القسوة. ومع تنامي استخدام العقوبات ازداد تنوعها، ما كان في يوم من الأيام مجموعة صغيرة من أشكال الحظر التجاري أصبح شبكة عالمية من الإجراءات القسرية، بعضها يغطي البلدان أو القطاعات الاقتصادية بأكملها، والبعض الآخر يستهدف شركات فردية أو أفراد.

على صعيداخر، في عام 2016 حذر وزير الخزانة الامريكي  جاك ليو ، بأن الإفراط في استخدام العقوبات الاقتصادية يمكن أن يقوض من مكانتنا القيادية في الاقتصاد العالمي ومن فعالية العقوبات نفسها. حتى ان الرئيس الامريكي دونالد ترامب نفسه، انقلب على هذه النصيحة،  وفرض عقوبات على الصين وإيران وروسيا وفنزويلا وغيرها. وخلال فترة رئاسة ترامب التي دامت أربع سنوات استهدف مكتب مراقبة الأصول الأجنبية ما يقرب من ضعف عدد الكيانات والأفراد سنويًا كما كان عليه خلال فترتي رئاسة جورج دبليو بوش وباراك أوباما مجتمعين.

وفيما يتعلق بروسيا، فلقد شهدت السياسة الأمريكية تجاه روسيا تحولاً كبيراً خلال العقد الماضي أشعله ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014. كشفت أمريكا وقوى غربية أخرى عن عقوبات ضد عشرات الوكالات والشركات الروسية وأعضاء دائرة بوتين. وبذلك كانوا يواجهون اقتصادًا يزيد حجمه عن ضعف حجم أي اقتصاد آخر استُهدف سابقًا بمثل هذه العقوبات الشاملة. في عام 2014 كان اجمالي الناتج المحلي لروسيا2.4  تريليون دولار، بعد العقوبات الامريكية أنخفض اجمالي الناتج المحلي بما يقارب 40% ليصل الي 1.4  تريليون دولار فقط. وخلال ثمان سنوات لاحقة لم يتعدى اجمالي الناتج المحلي لروسيا حاجز1.7  تريليون دولار فقط. وبع ازمة اوكرانيا اتسعت دائة العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا لتصل الى حد فرض الحصار الاقتصادي بكل ما تعنية الكلمة من معنى.

وتتوقف فعالية العقوبات على روسيا على الجهود التي سوف تبذلها روسيا للتحايل على هذه العقوبات. وان الطريقة التقليدية للقيام بذلك هي التجارة عبر تجار السوق السوداء حيث يستخدمون شركات وهمية وأوراق تجارية غير حقيقية وغير ذلك من الفنون المعروفة قديماً. والأهم من ذلك أن الدول المستهدفة بالعقوبات وتلك التي تريد التجارة معها يعملان معاً على أيجاد طرقًا للتعاون اقتصاديًا والتهرب عن تلك العقوبات ولا سيما التي تفرضها أمريكا.  فعلى سبيل المثال، استجابت الصين لحظر التكنولوجيا الأمريكية من خلال التنمية الذاتية عبر توسيع نطاق خطط الاستثمار في إنتاج الرقائق محلياً. كما تحاول تقليل اعتمادها على الدولار والبنوك الأمريكية. وتعمل الصين على جعل اليوان أكثر جاذبية في التمويل الدولي، وقد تساعد الرقمنة روسيا على القيام بذلك. على سبيل المثال يعتبر البنك المركزي الصيني رائدًا عالميًا في تطوير العملة الرقمية والتي يتم اختبارها في العديد من المدن، حيث تود الصين أيضًا تخفيف قبضة أمريكا على البنية التحتية للمدفوعات عبر الحدود. وان الصين لديها نسختها الخاصة من السويفت والتي تسمى CIPS والتي تبسط المدفوعات عبر الحدود باليوان. قد يكون تأثير الصين محدودًا بسبب دورها الصغير في التمويل الدولي بالنسبة للتجارة. لكن حصتها في تزايد وهي ليست وحدها التي تبحث عن طرق لتقليل الاعتماد على الدولار.

وتسعى أوروبا من جهة أخرى أيضًا إلى تعزيز دور عملتها الموحدة في التجارة العالمية. حيث يستخدم اليورو الآن لتسوية بعض شحنات النفط الدولية على سبيل المثال من قبل شركات السلع التي تشتري من روسيا. (كانت تجارة النفط مقومة تقليديًا بالدولار). وأصبحت أسواق رأس المال الروسية أقل اعتمادًا على المستثمرين الأجانب منذ أن فُرضت العقوبات المرتبطة بشبه جزيرة القرم قبل سبع سنوات – وهو أحد الأسباب التي جعلت أسواقها تتجاهل القيود الأمريكية الأخيرة. وقد لا يبدو الأمر دائماً بهذه السهولة حيث فشلت محاولات الاتحاد الأوروبي لإنشاء آلية مقايضة لمساعدة شركاته في الالتفاف على العقوبات الأمريكية. والنظام المالي الصيني ما زال معتماً وغير شفاف إلى حد كبير، كما أن اليوان يمثل نسبة 2.4٪ فقط من المدفوعات العالمية بينما يشكل الدولار 38٪.. لكن في النهاية لابد وان تكون العقوبات مختارة بعناية. لأن شبح هذا التحول الذي لا رجعة فيه يؤكد ما سبق أن حذر منه وزير الخزانة الامريكي جاك ليو بأن العقوبات الاقتصادية هي واحدة من أقوى مظاهر القوة الأمريكية علي الأطلاق، لكنها قد تقوض هيمنتها الاقتصادية بشكل قاتل وأن الأفراط في استخدامها قد يكون فيه سم قاتل.

زر الذهاب إلى الأعلى