مشروع قانون مكافحة الفساد – قراءة في المضمون والدوافع .. الموريتاني

في خطوة تشريعية توصف بالحاسمة ضمن جهود موريتانيا المتواصلة لمحاربة الفساد وتعزيز الشفافية والحكم الرشيد، صادقت الجمعية الوطنية، خلال جلسة علنية عقدتها السبت برئاسة السيد محمد بمب مكت، على مشروعي قانونين يتعلق أحدهما بمكافحة الفساد، فيما يتناول الآخر التصريح بالممتلكات والمصالح.

وقد جاءت هذه المصادقة تتويجًا لسلسلة من الإجراءات والسياسات التي تعكس ما تقول الحكومة إنها “إرادة سياسية حقيقية” في كبح جماح الفساد المستشري في مفاصل الدولة، خصوصًا بعد الانتقادات المتكررة الموجهة لترسانة القوانين الحالية، التي اعتبرت قاصرة عن محاصرة الظاهرة ومحاسبة المتورطين فيها.

أولًا: مشروع قانون مكافحة الفساد – قراءة في المضمون والدوافع

1. الخلفية القانونية والسياسية

يحل مشروع القانون الجديد محل القانون رقم 014-2016، الذي اعترف وزير العدل، محمد محمود ولد الشيخ عبد الله بن بيه، بوجود ثغرات قانونية ونواقص عملية كشفتها التجربة السابقة لتطبيقه، فضلًا عن الحاجة إلى استيعاب التوصيات الأممية المستخلصة من الاستعراض الدوري لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.

2. مضامين رئيسية للمشروع

  • التجريم الموسع: إدراج جرائم جديدة مثل الاختلاس في القطاع الخاص، وسوء استغلال الصفقات العمومية.
  • عقوبات صارمة: استحداث عقوبات سالبة للحرية في جرائم الإثراء غير المشروع، وزيادة الغرامات لتتناسب مع خطورة الأفعال.
  • تحقيقات أكثر فعالية: تعزيز الإجراءات التحفظية خلال البحث والتحقيق، وتوفير آليات قانونية لتقفي الأدلة واسترداد الأموال المنهوبة.
  • إجراءات قضائية منظمة: تحديد آجال النطق بالأحكام بـ 15 يومًا فقط من تاريخ حجز القضية، ما يُفترض أن يسرّع في البت القضائي.

3. الجدل التشريعي والواقعي

رغم الإشادة بمضمون المشروع، أبدى عدد من النواب مخاوفهم من أن يكون القانون مجرد إجراء تجميلي، مشيرين إلى أن:

  • المفاهيم القانونية ما تزال فضفاضة وقابلة للتأويل.
  • فعالية النص تبقى رهينة التطبيق الجاد والنية السياسية الصادقة.
  • السلطة الوطنية لمكافحة الفساد قد تتحول إلى “أرشيف بلا أنياب” إذا لم تُمنح أدوات إنفاذ حقيقية.

ثانيًا: مشروع قانون التصريح بالممتلكات والمصالح

1. أرضية تشريعية مهترئة

منذ إصدار القانون رقم 054-2007، ظلت آلية التصريح بالممتلكات عاجزة عن تحقيق أهدافها، حيث كشفت الممارسة عن ثغرات كبيرة من حيث الإلزام والرقابة والتنفيذ.

2. أبرز المقتضيات الجديدة

  • توسيع النطاق: إلزام فئات جديدة من الموظفين العموميين بالتصريح، بما في ذلك ممتلكات أولادهم القصر.
  • منع تضارب المصالح: وضع آليات واضحة للكشف عن المصالح التي قد تؤثر في الأداء الوظيفي.
  • شفافية أعلى: إلزام بنشر وتحديث بيانات المسؤولين السامين.
  • عقوبات رادعة: تضمين المشروع لعقوبات بالسجن وغرامات مالية للمخالفين.

3. تساؤلات ومخاوف النواب

  • هل تمتلك الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد القدرة البشرية واللوجستية لمعالجة هذا الكم من التصريحات؟
  • لماذا لم يشمل القانون النواب أنفسهم رغم تعريفهم كـ”موظفين عموميين” في المادة الأولى؟
  • ما مدى الجدية في تفعيل المتابعة؟ وهل هناك ضمانات تحمي المبلغين عن الفساد من الانتقام الوظيفي أو الاجتماعي؟

ثالثًا: تحديات التنفيذ على الأرض

1. بيئة قانونية محفوفة بالمخاطر

تاريخ التجربة التشريعية في مكافحة الفساد في موريتانيا يشير إلى وجود فجوة واسعة بين النصوص والتطبيق، تُغذّيها عوامل بنيوية وسياسية، من بينها:

  • ضعف استقلالية القضاء.
  • انتقائية في تطبيق القوانين.
  • ثقافة الإفلات من العقاب.
  • استغلال سياسي لأجهزة الرقابة.

2. مقترحات نواب البرلمان

  • إبعاد المشتبه فيهم من مناصب المسؤولية.
  • إطلاق برامج وطنية للتوعية والتثقيف حول الشفافية.
  • حماية المبلغين وتشجيع الصحافة الاستقصائية.
  • توحيد وتبسيط الأجهزة الرقابية لتفادي التداخل والتشتت.

لحظة تشريعية حاسمة أم خطوة تجميلية؟

تصديق الجمعية الوطنية على هذين المشروعين قد يكون نقطة تحوّل في المسار القانوني لموريتانيا نحو مكافحة جادة للفساد، لكنه لا يخرج عن إطار التوقعات المعتادة مالم تُترجم النصوص إلى ممارسات فعلية مدعومة بإرادة سياسية قوية، ومشاركة مجتمعية فاعلة، وجهاز قضائي مستقل ونزيه.

فالقوانين مهما بلغت دقتها تظل حبراً على ورق، ما لم تجد من يطبقها بعدالة، ومن يراقب تنفيذها بشجاعة، ومن يعاقب المخالفين بلا محاباة.

زر الذهاب إلى الأعلى