موريتانيا من دولة هامشية.. إلى دولة محورية في المنطقة / اباه أبيري اليدالي المامي

في خضم التحولات الجيوسياسية العميقة التي تشهدها إفريقيا والعالم، تلوح أمام موريتانيا فرصة نادرة لتعيد تموضعها، لا كدولة طرفية مهمشة، بل كدولة محورية توازن بين الانتماء المغاربي والانفتاح الإفريقي. هذه ليست مبالغة، بل قراءة واقعية لمعادلة جيوسياسية جديدة بدأت تتشكل منذ تراجع النفوذ الفرنسي، وتمدّد الفاعلين الجدد على الساحة الإفريقية.
خروج باريس من قواعدها العسكرية في غرب إفريقيا لم يكن سوى تتويج لسلسلة من التحولات التي قلّصت من نفوذ القوى التقليدية في القارة، وفتحت الباب أمام لاعبين جدد، أبرزهم الصين وروسيا. الأولى عبر التمويل والديون الميسّرة، والثانية عبر التحالفات العسكرية ومكافحة الإرهاب. وبالتوازي، بدأت دول إفريقية عديدة تغيّر نظرتها لذاتها، متخلية عن منطق التبعية والمساعدات، لصالح بناء اقتصادات مرنة ومستقلة، وشراكات متوازنة، وسياسات داخلية تحفظ الكرامة الوطنية.
وسط هذا المشهد، تتمتع موريتانيا بموقع جغرافي استراتيجي، واستقرار نسبي، وتنوّع ثقافي متعايش، إضافة إلى ثروات طبيعية هائلة غير مستثمرة بالشكل الأمثل. ما تحتاجه البلاد اليوم ليس مجرد إصلاحات جزئية، بل رؤية استراتيجية شاملة تضعها على سكة جديدة. وأقترح هنا خمس ركائز رئيسية يمكن أن تُشكّل هذه الرؤية:
1. الأمن والاستقرار الإقليمي
تعزيز الأمن لم يعد قضية داخلية فحسب، بل ضرورة لحماية المصالح الوطنية في ظل تنامي التهديدات على الحدود. إنشاء أكاديمية عسكرية وطنية، إدخال تكنولوجيا الطائرات المسيّرة، وتحليل البيانات
الاستخباراتية عبر مركز وطني مستقل، كلها خطوات يجب أن تقترن بعقيدة أمنية جديدة تُدمج الشرطة المجتمعية والدرك والجيش الوطني ضمن استراتيجية شاملة للاستقرار.
2. تنويع الاقتصاد والتنمية المستدامة
الاعتماد على المعادن والموارد الخام وحدها لم يعد كافياً. يجب إطلاق صندوق وطني لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة بشراكة مع دول خليجية وتركيا، هذا بالاضافة الى تعزيز الاقتصاد الوطني المحلي وتشجيع المستثمرين الوطنيين، وربط مدن الداخل بشبكة نقل متكاملة، وإنشاء منطقة صناعية حرة في نواذيبو لتطوير الصناعات الغذائية والتعدينية، مع دعم الزراعة الذكية لمواجهة التصحر.
3. التحول الطاقي
تمتلك موريتانيا إمكانيات هائلة في الطاقة المتجددة والغاز الطبيعي. مشروع الهيدروجين الأخضر بالتعاون مع شركاء أوروبيين، كهربة الريف بنسبة 80% من مصادر متجددة، وتحلية مياه البحر بالطاقة الشمسية، يمكن أن تجعل البلاد نموذجاً إفريقياً في الانتقال الطاقي النظيف.
4. دبلوماسية متعددة الاتجاهات
الحياد الإيجابي يجب أن يتحول إلى سياسة دبلوماسية فعالة. إطلاق “منتدى نواكشوط للحوار الإقليمي” سيسمح لموريتانيا بلعب دور الوسيط بين المغرب والجزائر، ويمنحها وزناً في فضاء مغاربي مأزوم. بالمقابل، يجب تعزيز الشراكات الاقتصادية مع تركيا ودول الخليج، والانفتاح على الاتحاد الأوروبي ودول الساحل الإفريقي.
5. الحوكمة والإصلاح المؤسسي
لن يتحقق أي تحول بدون إصلاح داخلي حقيقي. رقمنة الإدارة، استقلال القضاء، إنشاء هيئة رقابة مستقلة لمكافحة الفساد، وتمكين الشباب والنساء من الحياة السياسية، كلها خطوات ضرورية لبناء ثقة المواطن وتعزيز كفاءة الدولة.
موريتانيا في قلب إفريقيا: وحلقة وصل مهمة
إذا تم تنفيذ هذه الرؤية الطموحة بإرادة صادقة، فإن موريتانيا لن تظل مجرد طريق عبور، بل ستصبح نقطة التقاء مركزية ومؤثرة بين ضفتي الشمال والغرب الإفريقي، ما يعني أن تسريع اشغال البناء في طريق “الكركرات” مع المغرب يعزز التكامل المغاربي–الإفريقي، في حين أن طريق “الزويرات–تندوف” مع الجزائر أيضا يمكن أن يعيد رسم خرائط التجارة والنفوذ الجيوسياسي في المنطقة.
ولتحقيق ذلك، لا بد من إصلاحات عميقة تشمل شركة الطيران الوطنية، تطوير ميناء نواكشوط، وفتح البلاد أمام المستثمرين عبر قوانين شفافة تحمي حقوقهم وتحفّز رؤوس أموالهم.
لكن هناك تحديات اخرى لابد من مواجهتها بجدية وهي: البيروقراطية وضعف الجهاز الاداري، والفساد المؤسسي، بالاضافة الى غياب الكفاءات التنفيذية في بعض القطاعات كل هذا ولد ضعفا نتج عنه تراجع لثقة المواطن في المؤسسات العمومية.
هذه العقبات يجب أن لا تُغفل، بل تُدمج ضمن الرؤية الإصلاحية نفسها، وإلا تحولت الرؤية إلى مشروع نخبوي غير قابل للتنفيذ.
لا شيء ينقصنا سوى الإرادة
موريتانيا تقف اليوم على عتبة تاريخية. الأرضية جاهزة، والموارد متوفرة، والفرصة سانحة. ما ينقصنا فقط هو الإرادة الصادقة، والإيمان الجماعي بأننا نستحق أكثر. لا نحتاج إلى معجزات، بل إلى رؤية، وعمل، وزمن.
حينها فقط يمكننا أن نكتب، بثقة وفخر:
“من دولة هامشية إلى دولة محورية… موريتانيا تنهض.
تور – فرنسا