منجزات فكرية مرابطية خالـــدة

 محمد يحي ولد باباه

الموريتاني : يفصح هذا المسعى المقتضب إلى فك رموز أحد آثار الكتابة المبدئية الرصينة في الربوع الموريتانية قبل تسعة قرون من الآن كمحاولة لإبراز بعد هام من أبعاد التراث الفكري الإسلامي عن طريق استنباط المخزون النظري للكتابة المبدئية لدى كتاب و قضاة المرابطين في القرن الخامس الهجري (11م )، حيث نحط الرحال عند (أبي بكر محمد بن الحسن المرادي الحضرمي)، الذي تولى الإمامة والقضاء في حقبة خاصة من تاريخ دولة المرابطين بعاصمتها في الصحراء الموريتانية، آزوگي، فهذا المفكر المبدع قد دشن بحق مسارات فكرية مبدئية اعتبرت استباقا لما سيعتبره المفكرون العالميون فتحا جديدا في تحديد طبيعة الملك و شؤون الدولة في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، أي الحقبة التي مهدت لقيام التفكير الحداثي الحر في الدولة، فإذا كانت شؤون التدبير أو نظرية الدولة عبرت عن ذاتها قبل هذه الحقبة من تاريخ الإنسانية من خلال غلالة طوباوية و تجاوزت التنظير المتعالي إلى الواقع و الممارسة كطبيعة واصلت الإعلان عن شؤون الحكم حتى أيامنا هذه، فإن هذه الأفكار تواردت بكل وضوح في فكر المرابطين و خاصة الإمام الحضرمي في كتابه ” الإشارة في تدبير الإمارة ”    

         فقد أسس هذا الكتاب لنظرية متكاملة في السياسة والأخلاق، تشيد صرح الإنسان الكامل فرديا وجماعيا، حيث تعطينا كتابته رؤية شبه منسجمة تملك قوالبها الخاصة، و يتجلى ذلك بوضوح في أن مختلف القضايا التي يطرحها هذا الكتاب ” تنتظم في سلك إشكالية أخلاقية، سياسية تشكل المحور المركزي لتنظير هذا الفكر الذي يقوم ببناء شبه منسق لنظرية في الدولة، تستقي روافدها من الموروث الديني السني المعتدل و الفكري و الواقع التجريبي العلمي

         وهكذا يحيلنا هذا القطب التجريبي العملي في تفكير الحضرمي إلى مآلات الفكر المبدئي القيمي و السياسي في القرن السابع عشر الميلادي، فقد فرق الحضرمي داخل الذات البشرية بين قوتين متناقضتين في وظائفهما النفسية، هما : العقل والنفس الشريرة، فقوة العقل هي التي تؤمن التفوق الأخلاقي، أما النفس الشريرة، فهي مركز الأهواء التي تجرف الإنسان إلي الضياع الأخلاقي والديني.

يقول الحضرمي : ” … ولكن تفرح إذا عظمت بالعقل والديانة والعلم والمروءة، فإن هذه الصفات لا تفارقك في الدنيا والآخرة” .

     أصول فيما يبدو تشيد صرح الإنسان لتنحو به نحو الكمال، أي الأطراف المؤسسة لموضوع الأخلاق في روافده الكبرى، و يقول أيضا “وإذا أشكل عليك التخلق الجميل مع الإخوان والأصحاب، فاكره لهم ما تكرهه، وأحبب لهم ما تحبه لنفسك، وأحبب لهم ما تحب أن يوجبوه لك، فإنهم في الخليقة من جنسك. .”

” الأمير ليس لقوله أو فعله دافع ولا عليه مستحث”

       وهكذا تعكس لنا هذه الاستشهادات مظاهر التجديد الاستباقية الفكرية في معالجة نظرية الدولة داخل كتاب الإشارة، وخاصة إذا ما نظرنا إلى الكتابة السياسية السابقة على هذا الأثر، التي تأرجحت في أغلبها بين ميثولوجيا الإمامة ويوتوبيا الدولة.

زر الذهاب إلى الأعلى