“تيدره”.. الرباط الذي أصبح ملعب الغزلان/ حوض آركين- محمد ناجي ولد أحمدو

هنا قبل ألف سنة أسس عبد الله بن ياسين نواة دولة كانت لها كلمتها حينا من الزمن.. هنا تخندق حوله أبناء صنهاجة يرسمون ملامح مستقبل جديد مغاير تماما للماضي.. مستقبل كان يعيش في دماغ رجل واحد هو الأمير اللمتوني يحي بن عمر، وما لبث الواحد أن صار ألفا.. وغادر الرعيل الأول من تلامذة عبد الله بن ياسين رباطهم.
أقف على أرض جزيرة “تيدره”.. وأكثر الخطو عل أن تصادف قدماي ذرة رمل وطأها المرابطون، ثم أتذكر كم هي جليلة تلك الدولة التي انطلقت من هذه الجزيرة الصخرية.. وكم تستحق مواطئ أقدام أولئك الجدود أن أخفف الوطء احتراما لخطاهم الطاهرة.. أنا في متحف التاريخ والحكايا والبطولات.. بطولات تجاوز أثرها جزيرة تيدره، التاريخ يذكر أن الأمير الفارع يوسف بن تاشفين لبى نداء الإخوة في العدوة القصوى.. ومد في عمر الإسلام بالأندلس قرونا أربعة.. ويذكر أيضا أنه من هذه الجزيرة المنسية دوت في سمع الزمان حماحم خيل وطأت سنابكها من جبال البرانس شمال شبه جزيرة أيبريا إلى مفازات الصحراء الكبرى في حوض نهر النيجر.
ماذا تبقى من تيدره؟.. طيور وظباء ومقابر.. أقف عند شاهد أحد القبور، وأقرأ الفاتحة بخشوع.. أشعر كأن ذاك القبر يختزن كل حيوات أسلافي.. أرمقهم في الشاهد العتيق، أرى أبا بكر الأمير العظيم يتنازل ليوسف طواعية عن الجزء الشمالي من الدولة.. ويتفرغ لنشر دين الله في الجنوب قبل أن يباغته سهم غادر، لينام قرير العين في جبال تكانت.. وأرى فترات المد والجزر في تاريخ بلادي، والزمان القديم لاح شريطا.. وكأن القرون تيك ثواني..
هنا بعد أفول شمس المرابطين بقرون، جاء الأروبيون.. البرتغاليون أولا حينما كانوا سادة البحار، فالهولنديون فالإنجليز.. جزيرة متخمة بالماضي.
حاول البرتغاليون تدشين تجارة المثلث المشؤوم من هنا.. اختطفوا فتيانا من إيمراغن.. لكن أحفاد المرابطين ورثوا عن جدودهم مضاء وعريكة شَمُوسا.. كانت النهاية الدراماتيكية انتحارا جماعيا في عرض المحيط.. ومن حينها طلق تجار النخاسة محاولة تجربة شواطئ موريتانيا كبنك للعضلات التي قامت على عرقها نهضة أروبا.
هنا واسطة العقد في حوض آركين.. يمنع بتاتا دخول المواشي لكي لا تعكر صفو غزلان البر التي هاجرت إلى أنف البحر.
لا يدري الكثيرون سر تسمية آركين بهذا الاسم، وربما لا يعرفون أن دماء عربية تجري في تلك التسمية رغم التحريف.. تكسو شواطئ الجزيرة نباتات العرجم الذي يعد غذاء مفضلا للإبل، قبل أن تمنع الإبل من دخول الجزيرة.. وحرف الأروبيون العرجم حتى صار “آركين”.
هنا لعب الموريتانيون ممثلين في إمارة الترارزة لعبة شد الحبل مع الأروبيين.. يتحالفون مع هؤلاء ضد أولئك، قبل أن يعودوا ويناوئونهم تبعا للغة المصالح.
وبسبب هذه الشواطئ أوفد الهولنديون سفيرا فوق العادة وكامل السلطة لأمير الترارزة أقام في أرض البيظان عشرين سنة.. ومازالت دار الوثائق الهولندية في أمستردام تحتفظ برسالة نادرة وجهها أمير الترارزة إلى ملك الأراضي الواطئة.
.. اليوم تنام تيدره.. كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا.. وكأن لم تنطلق من هنا رايات دولة كانت سيدة قبل أن تبيد.. وكأن لم تتكالب القوى القادمة من وراء البحار على الجزيرة اليتيمة.
وحدها ظباء تيدره تعرف أنها تعيش بمكان مميز.. وربما يكون السياح الوحيدون الذين يزورون تيدره بانتظام هم أسراب الطيور المهاجرة التي تتخذ الجزيرة محطة إقامة موسمية.
أقفز إلى القارب الذي سوف يعيدني إلى الحاضر بعدما كنت مسافرا في الماضي.. وعيناي محدقتان في ذاك الماضي.

زر الذهاب إلى الأعلى