الأسرة والنظام الأسري في القرآن العظيم / حي حسن
الأسرة هي الوحدة الأساسية لبناء المجتمع ، وهي الخلية الأولى التي ينشأ فيها الفرد ويترعرع ويحصل على الحماية والرعاية والإعداد التربوي لشخصيته المستقبلية التي سيواجه بها الحياة ، ومن هذا المنطلق حظيت الأسرة بمكانة هامة في الإسلام ، وقد نزلت آيات قرآنية عديدة تتحدث عن الأسرة والنظام الأسري وتبين الأسس التنظيمية للعلاقة بين أفرادها .
فمن حيث البناء، توضح لنا الآيات أن الزواج هو الرابطة التي ينشأ بسببها كيان الأسرة ، يقول تعالى( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) ويقول أيضا(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ).أي أن الأسرة هي اللبنة الأولى في تأسيس المجتمع البشري ، ومن هذه اللبنة نشأت الأرحام وروابط القرابة والدم.
ويبدأ كيان الأسرة بعقد شرعي بين الزوجين يوثق لعلاقة أساسها الاحترام والتعاون والمودة وتأدية الحقوق كاملة ، ومن أول تلك الحقوق التي تتوجب على الرجل الزوج هي تقديم مهر الزوجة نحلة، أي هبة وعن طيب نفس، يقول تعالى (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا).
ثم يبين القرآن العظيم طبيعة العلاقة بين افراد الأسرة ، فبالنسبة للزوجين هي قائمة على المودة والرحمة، كما في الآية الشريفة (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً). كما أن الحقوق والواجبات بين الزوجين متكافئة انصافا وعدلا ، قال تعالى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ). أي لا يجوز لأي منهما أن يفرض واجبات من طرف واحد دون أن يكون للطرف الآخر ما يماثلها ، وبهذا يضع القرآن قاعدة عظيمة تضمن استمرار العلاقة الزوجية في جو من الاحترام والسعادة والشعور بتقدير الذات وعدم التسلط وتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات.
ولا تنقطع هذه العلاقة الراقية في بعدها الإنساني والعدلي بشكل مفاجئ فور حدوث الطلاق ، بل تستمر لتجعل الطلاق نفسه يتم في جو من التشاور والتفاهم والرضا ، كما في قوله تعالى ( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا)، ولتجعل فترة العدة ايضا مشمولة بهذه العلاقة الانسانية المتميزة، قال تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ۚ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۖ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ ۖ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ ).
ولكي يمتد هذا التفاهم والاستقرار إلى باقي كيان الأسرة ، نظم القرآن الكريم أسس العلاقة بين الآباء والأبناء وحتى بين باقي الأقرباء الذين قد يشملهم فضاء الأسرة ، فمن جهة أوجب على الآباء تربية أبنائهم تربية حسنة ليصبحوا افرادا صالحين مؤمنين مهتدين الى الطريق المستقيم ، وهو ما تشير اليه الآية الكريمة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) ، ومن جهة أخرى فرض على الأبناء بر الوالدين والإحسان إليهم ، قال تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)
ولا يقتصر الأمر على الطاعة والتلطف فحسب ، بل أمرنا القرآن بالإنفاق على الوالدين والأقربين فقال (يَسأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُل مَا أَنفَقتُم مِّن خَيرٍ فَلِلوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ) ، والقرابة والنسب تأتي من جهة الوالدين حصرا ، ما يعني أن الاحسان الى هؤلاء الأقرباء هو احسان للوالدين أيضا ، كما ان فيه إشاعة لأجواء التعاطف والمودة بين باقي أفراد الأسرة.
ومما تقدم يتضح أن القواعد العامة التي وضعها القرآن العظيم للنظام الأسري كفيلة بقيام أسرة سعيدة متماسكة متعاونة فيما بينها ، أسرة تحقق لأفرادها العدالة والاحترام وتقدير الذات وتوفير الحاجيات المادية والوجدانية . وبالتالي فإن الرجوع إلى هذه القواعد والتقيد بها كفيل بحماية الأسرة الإسلامية من أي اختلالات داخلية قد تؤثر على دورها في بناء المجتمع وفي تربية الفرد تربية صحيحة.
من افكار المفكر علي محمد الشرفاء الحمادي