تراث القدس الزائر الذي استوطن الأفئدة والعقول /

إعداد: فادي محمد الدحدوح

مؤلف وباحث    

يصيغ التراث شخصية ووجدان وهوية الأفراد والأمموالمجتمعات؛ فالتراث بمثابة الذاكرة البيئية والوراثية، ونظراًلما للتراث من أهمية في تعليم الأفراد القراءة والكتابةلتاريخهم وثقافتهم فقد اهتم به في العلوم الإنسانيةالأخرى من خلال الجامعات والدوريات والمؤسسات بهدفجمع وتوثيق ودراسة وتحليل التراث، ويمثل التراث لأيمجتمع شخصيته وخصائصه الحضارية المادية والمعنوية،لذلك اهتم أهل صناعة المناهج منذ وقت طويل بتضمينالتراث الخاص بكل مجتمع وتراث المجتمعات المختلفةليتعلم منه أبناؤه، وحتى يتمكن المتعلمون من التواصلوالتفاعل فيما بينهم.

يُطلق لفظ التراث على مجموع نتاج الحضاراتالسابقة التي يتم وراثتها من السلف إلى الخلّف، وهونتائج تجارب الإنسان ورغباته وأحاسيسه سواء كانت فيميادين العلم أو الفكر أو اللغة أو الأدب، ويمتد ليشملجميع النواحي المادية والوجدانية للمجتمع، وتشهدالمخطوطات الموجودة في مكتبات العالم، والآثار المنتشرةفي متاحفه على ما تمتلكه الأمة من تراث ثقافي عريق. وينبغي لدارس التراث أن يتميز برهافة الحس النفسيليختار من قديمه ليلائم جديده وأن  يجمع بين مميزاتالتراث وأصالته وبين ما يحتاج الفكر المعاصر إليه.

تولي الأمم والشعوب أهمية فائقة لجمع التراثالوطني بمختلف فروعه وأقسامه، ومن ثَمَّ توثيقه، وحفظه،فالتراث الوطني أروع وسائل التواصل بين الأجيال، كمايعزز الانتماء للأرض والوطن، ويثري الروح المعنويةويحفزها على الإبداع والتفوق. والتراث يضم كل ما شيدهالأجداد من عمائر دينية كالمساجد والكنائس ودور العلموالزوايا والتكايا، كما يضم الحرف اليدوية والصناعاتالتقليدية كصناعة الصابون والزيت، والخزف والنحاسوالتطريز، وكذلك الفنون الشعبية كالأهازيج والأغانيالشعبية، وكذلك الفنون التشكيلية والفنون الشفاهيةالأدبية. ولذلك ينبغي الرجوع إلى تراثنا واتخاذه نقطةانطلاق نحو المستقبل وليس مجرد تراكم حضاري لخبراتوتجارب ومعارف الماضي، بل يجب أن نتعامل معه باعتبارهشخصية الأمة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها.

كثيراً ما استخدمت عناصر التراث لتدعيم قضيةصراع وطنية، وكسب حقوق، وتراث مدينة القدس نموذجحي بالغ الأهمية وفي حاجة ماسة للتعريف به، وتوطينهبين أبناء الأمة العربية الإسلامية. فتراثها له شأن آخر ذوخصوصية. فهي ليست مدينة الأرض والمكان والزمانفحسب بل هي امتداد طبيعي لأبجدية ثقافية عربية كاملةالمواصفات شكلت مرجعية تواصل فني وجمالي معأصولها المتوارثة وذاكرتها التاريخية والروحية التياستوطنت الأفئدة والعقول على مدى الحضارات الإنسانية.

ونظراً لهذه الأهمية للتراث، فقد أدركت بعض الدولبأن جمع تراث الأمم وشراؤه أو الاستيلاء عليه هو أحدالوسائل التي تتيح لهذه الدول معرفة حضارات الدولالأخرى، ولذلك فقد قامت دول استعمارية كثيرة بسرقةتراث كثير من المدن، كما هو واقع الحال في مدينة القدس،ولعل أفضل الوسائل للتعامل مع التراث لحمايته والمحافظةعليه هو الوعي بقيمته وأهميته الدينية والتاريخية والثقافيةوالفنية. ويتطلب هذا الوعي الاهتمام به، تعليمه وتذوقهوالدفاع عنه، كما تنبع أهمية التراث المقدسي تحديدا بمايحمله من قيم الندرة، الهوية، القيم الفنية، الوظيفية،التعليمية، الاجتماعية، السياسية، وأفكار ومعتقدات وعاداتوتقاليد، كما يمثل ذاكرة الأفراد والأمة العربية والإسلامية.

 هذه الأهمية للتراث لا تقتصر على ما يتصل بالأمةالإسلامية فحسب، بل هي قانون حضاري يشمل كلالأمم، فلكل أمة تراثها الذي يشكل دورا محوريا في تكوينهويتها، إذ لا هوية للمجتمعات بغير الاستناد إلى تراثها،فهو رافد مهم للتراث الوطني يشكل الإطار التاريخي الذيتنطلق منه حضارة المجتمع، ويعد بمثابة الوعاء الذي يضمبين جنباته الحصيلة الإنسانية لكافة جوانب تطورالمجتمعات ونموها. ويمثل الجزء المرئي من التاريخ، وهوملك للبشرية جمعاء، غير قابل للتعويض، فإذا ما أتلف أوأزيل من الوجود فإنه لا يمكن أن يعود كما كان، ولا يمكنإعادة أصالته بعد تدميره. لذلك، لا بد من حمايته وصونهوالمحافظة عليه.

إن أبلغ الدروس الحضارية للمجتمعات لا يمكن أننتصوره بأبهى صورة مثلما يقدمه تراث الأمم ليستخلصمنه الأجيال معالم الواقع، وصورة الحاضر، وتحديد ملامحالمستقبل؛ فالتراث بأنواعه المختلفة روح الوطن ووجدانه،وهوية المجتمعات البشرية، ودليلا حيويا على مراحلتطورها، كما يوضح لنا تركيب الأمة الاجتماعيوالاقتصادي ومؤشر تقدمها الحضاري. بل يعد ذاكرةالتاريخ الحية، فإن كان التاريخ هو ذاكرة الأمة، فالتراثروحها، لذلك فالتمسك بالتراث ظاهرة بالغة الأهمية، ولو لميتعرف العالم على تراثهم المعرفي، ولو لم يدرسوا التراثالغني بالمعارف والثقافات كابن سينا والفارابي وغيرهم، لمااستطاعوا أن يبنوا الحضارة الراهنة. وكما يقولون “من لاتراث له لا وطن له”.

زر الذهاب إلى الأعلى